الف شكر وشكر

الكاتبة : إخلاص الصاعدي

إحدى الأشياء الفريدة المتعلقة بالطب هو تنوّع الأشخاص الذين تقابلهم يوميّاً من مرضى , معلمينَ و زملاء مهنة. لطالما اعتبرتُ ذلك كإحدى ميزات مهنة الطب. إنّهُ ذاكَ المزيجُ العجيبُ من الشخصياتِ الذي يجعلُ حدقتيك تتّسِعانِ من فرطِ الدّهشة ،الإعجاب ,والاستغراب  .

هذا الثراء دوماً يُضيف إليك بشكلٍ أو بآخر فبعضٌ من الدروسِ المستقاةِ من التعامل الإنساني بسيطةٌ و مباشرة تتلقّاها من مُعلّمك بسلاسةٍ عن طريقِ القدوةِ الحسنة . لكنّ البعضَ الآخر من هذه الدروس ليس كذلك. إنّهُ يأتيكَ متخفّياً في غدرِ الصديقِ  ظلمِ المعلّم ،و بهتانِ المريض , يأتيكَ مغلّفاً بالألمِ ،لاذعاً و منفراً.

 رغمَ هذا كله أجده أدومم الدّرُوسِ وأبقاها على الإطلاق ،فكيف يُنسى و قد وَضعْتَ فيهِ يوماً قطعة من قلبك ؟.

 بيدَ أن مُشكلةً رئيسةً تُعيقُ الانتفاعَ من هكذا درسٍ قيمٍ ؛عيناك اللمّاحتان غُمِّمَتا بالأزمة فما عُدْتَ تلمحُ أيّ شيءٍ مُثمِرٍ وسطَ ما تَراهُ كَتجرِبةٍ بائسةٍ و حسب. إن كنّا تَعوّدنا على أن “نبحَثَ عن شمعة وسط الظلام ” ،فآنا أقولُ : لِمَ لا نتمعّن جيداً بِبصيرتنا في هذا الظلام لِنجد أنّه لم يكُن بالسوء الذي توقّعناه؟

في هذه الجموع التي ستُقابلها ؛سَتجِدُ من كُلّ خصلةٍ طرفيّ النقيض ..و أشياء أخرى بينهما في المنتصف. و بِقدرِ ما تظُنّه مهمّاً أن ترى الجمال دوماً حتّى تتشبَّعهُ رُوحُك ؛بقدرِ ما هو أهمّ أن ترى نقيضَ الجمال أيضاً .

 أنت  كطالبِ طبٍّ أقدرُ من غيرك على استيعابِ هذِهِ الفكرة ،إذ لا بدّ لك آن تُقدّر ما هو طبيعيٌّ و ما هو غيرَ طبيعيّ في الإنسان لتداوي علّاتِه ،و الوضعُ مماثل لذلك هنا. خُذها على هذا النّحو: أنت لن تفهمَ أبَداً معنى أن يكونَ الطبيبُ مُمارِساً صِحيّاً مُحترِفاً و إنساناً خَلُوقاً بالتنظيرِ وحدَه و إن حضرْتَ عشراتِ الساعاتِ التدريبية في مهاراتِ الاتصالِ و أخلاقياتِ المهنة  لن تَفهمَ ذلك إلى أن تشعُر بوضاعةِ المُنافَسةِ الغير شريفة مع زميلك ،و الجهلِ و الحرجِ المُطلَقين أمام مُعلّمك، و إلى أن يُعاني واَلدكَ تبعاتِ خطأ طبّي من مُمارِس متساهل. عندما تُحسّ بتلك المرارةِ؛ فاسعد! اسعد كثيراً لأنّ موازينَ الخطأ و الصوابِ لديك أخَذَت تنتظمُ عن وعيٍ لا عن تلقين. بدَأت تفهمُ لم يَتعيّنُ عليكَ أن تُطارد ذاك الصوابُ بأشدِّ ما لديك لِتُدرِكه، و بدَأت تُدرك كم أنّ هذا الخطأ شنيعٌ فَتسعى لآن تَدفَعهُ عن غيرِك.

في رِحلَتِك الطبّية ستُقابلُ مُعلِّماً خفِيضَ الجناحِ يُشعِرُكَ كم أنَّ التواضُعَ سامٍ  ,و ستجِدُ من يعملُ كثيراً و يتحدّثُ قليلاً ليُعلّمَك روعةَ الإنجازِ بِصمْت. و بالمقابل ؛ستُصادِفُ من يجعلُك زاهداً في بحرِ علمِه رغمَ أنفِك بسوء خِلاله. جميعُهم مُعلِّمون جيّدون و إن اختلفت طرائقهم ،فهُم قد لا يعرفون سبيلاً غير هذا لِيصلوا بك إلى حيث تُريد.

سيُعلّمك الزملاء كم هو مهمٌ أن تكون باعثاً للأمل ،لأنّك حتماً ستحتاجُ يوماً من ينزعُ نظّارَتكَ السّوداء ليقول لك :انظر؛الجوُّ صحوٌ ،و قوسُ المطرِ هنا! لا أُخفيكَ أنّك ستتألّم حين ترى فُرَصاً أُتيحت لك بعد عناءٍ و مشقّةٍ ينالُها – مَعَك أو دُوناً عنك -من لا يستحِقّها إلا لامتلاكه لمجموعةِ فيتاميناتٍ لا تملكها. لا تقلق .. ستصلُ أنتَ و سيصلُ هو ،لكنّه سيكون بمعزلٍ عمّا سيمكنهُ من الإفادة من فرصتِهِ ؛تلك الخبرات التي وَهبَك إيّاها عملُك الشّاق – مشكوراً – و عجزت فيتاميناتُه عن منحها إيٌاه.

أتُصدّقُنِي إن قُلتُ لك أن قليلاً من النقدِ الجارِح و الكلامِ المُستفزّ صِحيٌّ جدّاً ؟! إذ بالمُقابلِ ؛كيلُ المديحِ و سردُ المحاسِن وحده لن يُنتج إلا ديكتاتوراً صغيراً ..و نحن لسنا بحاجةٍ إلى المزيدِ من هؤلاء على أيةِ حال. هُو أيضاً يُدرّبُكَ على فضيلةِ الحلمِ و الأناةِ و يُعلّمُك كبت انفعالاتك الثائرة ؛قُلّي بالله بأي طريقة غيرِها ظننت أنّك ستتعلّمُ ذلك ؟ أ بالصّبرِ على ما تُحِبّ ؟ إن الافتقار إلى الذّوقِ و اللياقةِ شَأْنٌ يخُصّ المسيء وحده و لا يسعك عِلاجُه ؛فهو لا يَقَعُ في دائرة تأثيرك. أما التنقيب عن النّقدِ الصّادقِ بين أكوامِ المُغالطاتِ فذلك شأنٌ يعنيك و هو ما نبغي التركيزُ عليه.

إن قابَلتَ أشخاصاً كَمن قابلتُ – و أنا أعلمُ أنّك فَعلتَ أو سَتفعلُ – فَعُد و عانقهم إن استطعت و قُل : ألفُ شُكرٍ .. أعرِف الآن ما أُريد و ما لا أريد أن أكُونه ، غدا الأمر أوضحُ الآن .

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. “فكيف يُنسى و قد وَضعْتَ فيهِ يوماً قطعة من قلبك ؟.”
    فعلاً .. مانعتبره -نحن- مشكلة سيئة أوذكرى مريرة، قد تلد لنا أشياء جميلة مغّلفة ، تتطلّب منا بعض الصبر والتأمل ..
    عناق كبير وألف شكر لكِ إخلاص ()
    أحب كمية الأمل بين سطور هذا المقال ..
    شيء ما، يدعوني لتذكر بعض الوقفات المظلمة، بسعادة =) كأنني أدركت بكلماتك هذه قيمتها ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى