عفواً ، لم ندرس ما هو الطابور؟!

الكاتبة: ديما الشافي

كان يا مكان وفي قديم الزمان في نهارٍ صيفيٍ قائظ انتهيت فيه من التسوق بأحد المحلات التجارية فأقبلت متهيبة نحو –كاشير- المحاسبة إلا أنني رأيت عجباً هناك ، فكما أن أول الغيث قطرة فإن عدم وجود صف لأنتظم فيه كان أول العجائب ، فقد كان ما رأيت عبارة عن كتلة بشرية عبثيةُ مبهمة لا تعرف حدوداً ولا مدى إلا أنني لم أتراجع أمامها واستطردتُ متوهمة وجود صف ووقفت في آخره على كل حال ، ولكن بعد بريهةٌ من الزمن نفضني أمر قد جعلني أيقن منه بأن المُسلمات قد نُسفت وأن البديهيات قد خرقت فلقد أصبحت أبتعد عن الأفق بدل أن اقترب منه لاسيما مع وجود اللاواتي لم يجدن بُداً من اختراق الصفوف عرضياً لضمان الوصول الأسرع ، ذهلني ما رأيت فأعددت العدة لإفشال عمليات الإقتحام المستمرة دون ملل ولا كلل مرددة بين الفينة والأخرى : (بالدور لو سمحتِ) ، (هناك طابور الله يعافيكم) .. ولكن الأكيد بأن “لقد أسمعت لو ناديت حياً لكن لا حياة لمن تنادي” قد قيلت في مثل هؤلاء..

في الحقيقة لم يضايقني الوقت المهدر ولا المنظر المُضن بقدر ما آلمني استخدام الصغار في مثل هذه الإنتهاكات ، بحيث تشير الأم إلى ابنتها أو ابنها ذوي البنية الصغيرة لكي يتخطوا الصفوف ويتجاوزا الرُكب حتى يصلوا إلى منطقة المحاسبة فيشير الطفل إلى أمه بفخر وحبور بأنه أنجر المهمة المُوكلة إليه فتمده بالمشتروات والمال وبالتالي تكون قد تفوقت على كل من ينتظرون في الصف وانتصرت عليهم والغريب في الأمر بأن الأباء أيضاً يستخدمون نفس الطريقة وأشك في أن دوافعهم مقتاته على مبدأ “عدم الإختلاط” إذ أنهم يسعدون بإنجاز الأطفال ويتباهون به…وإذا كان هذا حال الصغار وهذه تعالميهم وجبلّتهم فإذاً : بشّر الزرع بفلاح جديد!!

وصلت أخيراً أمام منطقة المحاسبة لأجد ظاهرة جديدة يؤثرونها من لا يحبذون التدافع الممقوت كما يبدو ، مفادها أن تكوّم إحداهن مشترياتها أمام وجه البائع وتمد مالاً من فئة –خمسمائة- بين عينيه باغية بذلك أن تغريه بتأهبها فيتوارى كل من خلفها ولكني رفضت وبشدة أن تتقدمني وطلبت منها أن تعود إلى أول الصف فلم ترد ولم تلتفت حتى ظننت لبرهة بأنها لا تراني ولكنها بقيت على أمل أن تجد نقطة ضعف في هذا المسمى بـ “طابور” فربما يأتيها الفرج على نحو ما..كنت اتساءل في لو أنها وقفت في الصف ولو أننا سلمنا من التدافع والإختراقات ألن ستكون العملية أسهل! وألن سنوفر وقتاً وجهداً قد ذهبا هباءً منثوراً!!

سمعت مرة أن هذه الظواهر تنتشر أيضاً بين الأوساط الرجالية وإن كانت لها صور أخرى .. فربما تجد من يصادق بائع أو صاحب فائدة من أجل أن تكون كلمة (سلام عليكم) وتلويحة باليد من آخر الصف كافية بأن تنقله للأمام مستبدلاً الخجل بالفخر والسعادة..وهذه الطريقة لا تقتصر على المطاعم والأسواق وإنما الأدهى والأمر أنها تمتد نحو الأماكن الرسمية والدوائر الحكومية..تُرى ألا نجد نظاماً حتى في مكانه!!

 ولم تسلم أطهر بقاع الأرض من هذا الأمر حيث أن التدافع حول الكعبة المشرفة جمع المسلمين كما جمعتهم كلمة التوحيد تماماً (إلا من رفع الله عنه هذا البلاء) حتى أنه لم يَعد أمراً مستنكراً أن ترى هؤلاء الذين يتوغلون عامودياً على مسار الطائفين -إقبالاً أو إدباراً- غير مبالين باصطدام أو إعياء أو تعطيل للآخرين.. ولن تكون الروضة في مسجد نبينا استثناء عن ذلك حيث أن التدافع هناك قد أصبح سمةً للمكان وطابعاً له ، فلو أن أجنبياً كان بيننا ماذا يا تراه سيقول عنا؟؟ ألن يستغرب ثقافة التدافع التي نتعلمها قبل الإنتظام! ألن يتساءل لو كان هذا هو الإسلام أم لا؟! أليس من واجبنا أن نعطي صورة حقّه عن ديننا ووطننا ولو بهذه الأمور البسيطة!! ألم يكن من المفترض أن يحركنا الإسلام الذي في صدورنا دون الحاجة منا إلى لوحات إرشادية وخطوط ومسارات إجبارية حتى ننتظم بها وإن لم نفعل ذلك حتى بوجودها!!

وبنظري ورؤيتي المحدودة ولأن العد يبدأ من الصفر ولأن البناء ينشأ من الأرض فإن العلاج الوحيد لهذا المرض العضال سيكون في النقطة التي أشبعناها طرحاً ألا وهي تعليم الصغار ونشر الوعي بينهم..والحمل الأكبر في هذا الأمر يقع على المدارس والمعلمين وهنا نحن حقيقةً لسنا بحاجة إلى الحفظ والتلقين وإنما إلى التعليم الميداني والتطبيقي الذي سيكون فعلاً نقشاً على حجر..قضينا اثنى عشر سنة في المدرسة يتخللها حصة أو اثنتين اسبوعياً تسمى بحصص النشاط وماهي حقيقة إلا حصص للكسل ، كانت وقتاً ثميناً لو أننا خرجنا منها فقط بثقافة الطابور وآداب الوقوف في الصف لكان خيراً..

يجب أن نركز على هذه الفئة الغضة المُطاوعة ، فما نتعلمه اليوم هو ما سيطبق في الغد برضا واقتناع.. وأن نقرن هذا العمل بتصحيح أخطاء الكبار ونصحهم ومنعهم من تجاوز الصفوف بالطريقة التي تردعهم دون أن تؤذيهم..وعلى هذا الطريق بإذن الله سنستأصل كل الظواهر الرجعية في المجتمع فنرتقي بأنفسنا وديننا ووطننا بكل تأكيد..

وأخيراً بقي في ذهني سؤال يتيم ..لو أن الكبار يحترمون الصفوف أكنّا سنخترقها؟!!

 

مقالات ذات صلة

‫11 تعليقات

  1. سلمت اناملكِ عزيزتي ديما …
    موضوع رائع واروع مافيه انه ناقش مشكلة حقيقية اعاني منها باستمرار ،،
    في انتظار مقالاتك القادمة
    وبالتوفيبيق

  2. كلام سليم و موضوع الكل يعاني منه
    حتا مصطلح (الهماجه) والله ماتوصف الي عمال يسير
    وعلي قوله بابا السعوديه أبدا ماراح تتطور ابتداء من عدم احترام الطابور
    موضوع رائع تسلم اناملك ديما

  3. يعطيكي العافية ديماا لازود عليكي موهوبه طول عمرك
    منجد الي بيصير دا يخلي الواحد يبطل يشتري والله ههههه
    اللله يكون في عوننا تسلمي دمدوم

  4. حقيقة عبرتي و اثرتي
    و لو تحدثنا في غيرها من الظواهر السلبية التي لا تعود علينا الا بالسمعه السيئة جمعا لما توقفنا!
    أستطيع النصح بقراءة كتاب “كخة يا بابا” فيه يتناول مثل هذه الظواهر المزعجة و التي يجب ردعها عاجلا
    سلمتي يا غالية 🙂 <3

  5. نعتقد لوهلة أن الموضوع بسيط “طابور” ..!
    لكن طرحكِ أعطاه بعدًا حقيقيًا تغافلنا عنه ..
    أوافقكِ نبتديء بالصغار و بغرس هذه السلوكيات فيهم و أيضًا بتطويع أنفسنا لسلوكها
    فأنتِ بتخيلك طابورًا ما و التزامك به يعزز هذا السلوك و يقدم للطفل قدوة عملية..
    طرحكِ و أسلوبكِ جميل كالعادة ^^

  6. قرأت مقال قديم .. يقول صاحبه ان هناك علاقة جلية بين وقوف الناس في “الطابور” ورقي المجتمع ….
    ويبدو أننا متأخرون قليلاً .. وربما كثيراً !!
    …..
    أسلوب رائع في الطرح
    يعطيكـ العافية اخت ديما

  7. طرح جميل للمشكلة ,, وقد جاءت كما يقولون ( ع الجرح ) ,,
    نعاني كثير من هذه الظاهرة ,, ونأمل ان تتعدل الامور ( وان كان هذا الامل ضعيف )
    شكرا يا دكتورة على هذا المقال الرائع 🙂

  8. كلام سليم
    وبصراحه السبب هو الكبار ثم الكبار ثم الكبار
    في مره كنت مرتبة طابور مع بنات مثل عمري, جت أم هي وبنتها قالت أمشي بس معليش أمشي لاتستنين … ماقلت شي للأم لأنها كبيره وحامل ف سكت والبنت نفس الأم لأن عاجبها الوضع و حست إنها ماراح تمشي إلا كذا .. بس قهر

  9. “جبتيها على الجرح” أختي ديمة
    هذه الآفة المريرة وللأسف كما قلتِ أصبحت غريزة وطبيعة متأصلة في أفراد المجتمع من كبيرهم إلى صغيرهم وفي معظم ممارساتهم اليومية
    إنها ثقافة “نفسي نفسي والباقي خلفي” :/
    وكما قلتي .. فإن الحمل الأكبر للتغيير يقع على عاتق المدرسة .. فالكثير من الممارسات التي تحصل كانت سببا في تأصيل هذه الفطرة الهمجية
    منها .. طريقة تجاوب الطلبة في الحصة وما يصاحبها من “صياحٍ” و “قفز” ..
    والمقصف المدرسي … “المعركة اليومية في سبيل الأكل”
    وطبعا ساحة الإنصراف .. وكأنها ساحة ثورة من أجل الخلاص
    وغيرها الكثير ..
    لذا .. قد لا يكون الإصلاح بالضرورة بمنهجة حصص ونشاطات ميدانية .. ولكن بمنهجة قوانين سلوكية تربوية .. تهذب نفوسهم وتضبط ممارساتهم .. بدلا من التركيز على “لون البكلة” و “رسمة الشنطة” و “طول الجوارب” .. (أكرمكم الله).
    وُفقتِ في طرحك أختي ديمة
    لكِ شكري وتقدريري

  10. فلو أن أجنبياً كان بيننا ماذا يا تراه سيقول عنا؟؟ ألن يستغرب ثقافة التدافع التي نتعلمها قبل الإنتظام!
    <<تنظر اليــك بتعجب واشمئزاز O_o دا اذا كانت اول مرة تزور بلادنا لكن لو اخدة علينا بتدف وتتضارب :/ علمناهم
    للأسف شعبنا شعب مستعجل دقيقة انتظار مايستحمل ؟!!
    طرح رائع .. دمتــي

  11. وكالعاده يعتبر “الطابور”دلاله ع ثقافة الشعب وللاسف ليست لدينا هذه الثقافه،
    ابدعتً بكل حرف سطرتيه هنا
    دمتي ودام نبض قلمك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى