طفلٌ مريض

الكاتبة: ديما الشافي

من منّا لم يكن طفلاً في يومٍ من الأيام! ومن منا لم يزر طبيباً عندما كان طفلاً!

المرض حالة من الضعف والطفولة أيضاً هي مرحلة من الضعف والوهن والإحتياج فكيف سيكون الحال لو اصطدمت المرحلة بالحالة فاجتمع الضعفين معاً!

تساءلت كثيراً ، تُرى كيف كانت صورة الطبيب في مخيلتي عندما كنت صغيرة وأي انطباع رسمته عنه؟! أكان كما يفترض أن يكون ، ملاكاَ طاهراً نذهب إليه لكي يزيل الألم؟ أم أنني ظننت أنه هو ذلك الغول الذي يستشف من إيذاء الأطفال وإرعابهم؟!

كل تلك الأسئلة مرت على تفكيري عرضاً عندما كنت اتأمل طفلاً لا يتجاوز الست السنوات في غرفة العمليات في انتظار التخدير من أجل استئصال لوزتيه وقد هالني منظره وهو يرتجف ويتنهد وينشج بصمت وإن كان كل ما يدور حوله أعلى بكثير من سقف استيعابه وتفكيره، كانت له عينين تعكسان رعباً عميقاً مُشوباً بعبرة ظاهرة تتخبط على إثرها الدموع في عينيه والتي ما لبثت أن تساقطت متمردة بعد أن عجز عن مغالبتها وترويضها..

أشفقت عليه كثيراً فلابد وأن خوفه يفوق تصور عقولنا الصلبة، وغربته لا تشبه أي غربة نعرفها. فهو في غرفة لا تشبه غرفة ألعابه أبداً ، بعيداً عن والدته ومع أشخاص مجهولين لم يكن أحدهم هو معلمته في الصف ولا صاحبه في المدرسة ، ليأتي خوفه من العملية متأخراً إذا كان خائفاً منها أو مستوعباً لها أصلاً.

تساءلت أيضاً ، أيُ حق هذا الذي يجعلنا نستبيح ذاكرتهم فنمرضها! وأيُ طب هذا الذي يجعلنا نرفع عنهم ألماً جسدي ونستبدله بألم روحي وندوباً تبقى ملتصقةً أبداً في قاع الذاكرة !! وأي ذكرى موحشة يصعب نسيانها ، ننسى ألا نتركها خلفنا فيتعثروا بها عمراً بعدنا! في حال أن حدة وقوة ذاكرة الأطفال لا يمكن أن تخفى على أحد –لا سيما أطباء الأطفال- والتي وإن لم تحتفظ بالمواقف ذاتها فإنها حتماً ستُبقي على مخلفاتها وترسباتها العميقة..

لم يكن ذلك كل مارأيت ، ففي أثناء دراستي لطب الأطفال رأيت أشياء لا تنسى وربما لا تحكى ، تتهشم عندها كل معاني العطف والرحمة ويتصدع أمامها جدار الأمانة والمسؤولية ، فبغفلة من الضمائر وبعيداً جداً عن العتمة رأيت طفلاً يحبو على أرض المستشفى وأمه تتأمله بهدوء ورغم ذلك فإني لم أستطع أن ألومها بشئ أبداً وكيف لنا أن نتوقع من طفل في هذا العمر أن يظل حبيس السرير ليس لساعات وإنما لأيام أو ربما لأسابيع. كان هناك أيضاً أطفالاً يلعبون بسلم المستشفى المكدس بالأوبئة بعد أن مَلّوا المرض ، وقد نسينا أن حاجة الأطفال للعب قد تفوق حاجتهم للأكل والشرب وحتى النوم.

أما حال الأمهات فلم يكن أفضل من أطفالهن بتاتاً ، فبعضهن ينمن مع أطفالهن في نفس السرير وأخريات منتصبات على الكراسي والأدهى والأمر من يفترشن الأرض!! إلى متى يا تُرى سيستمر علاج الأطفال في مستشفياتنا وقد غيبت وأهدرت فيها الجوانب النفسية والحاجات الروحية في ظل معرفتنا المسبقة بأن نصف الشفاء معنويات! الآن ما عدت أستغرب قيام بعض الأمهات قليلات المعرفة بأمور التربية باستخدام التهديد بالذهاب إلى المستشفى أو مجرد استخدام كلمة “طبيب” كوسيلة يسيره وفعالة لتهديد أطفالها وإرهابهم وربما إجبارهم على الإستقامة والإنضباط..

أعلم أن هذا ليس بحال كل المستشفيات ولا كل الأطباء وأعلم أيضاً أني لم أصل إلى مرحلة التي يحق لي فيها التنديد ولا الإستنكار ما دمت ما أزال لَبنة صغيرة في كادر صحي ضخم ووضعي فيه لا يسمح لي إلا برؤية الأمور من ثقب صغير قد تغيب عن مداه الكثير من المعوقات والعقبات التي تواجه أهل المعرفة والإختصاص ولكن ما المانع من أن نتحرك مادام هناك نقص ظاهر ومادام  الأمر واقع وعيان. ألا يجب أن نتعاطى مع الأمر بجدية أكثر!! لماذا لا تفرض قوانين صارمة تعنى بنفسيات الأطفال وأرواحهم الطاهرة!!

إن توفير غرفة متواضعة للألعاب واستبدال شبح البالطو الأبيض بثياب بسيطة والسماح لوالدة الطفل بدخول غرفة العمليات (وإن اقتصرت على لحظة غياب وعي الطفل ولحظة استيقاظه) هي لمسات بسيطة لا تحتاج لتغييرات ضخمة ولا لميزانيات موضوعة ولا لخطط مدروسة ولا تسبب إزعاجاً لطاقم العمل إلا أنها قد تبث الطمأنينة والراحة في نفس الطفل الذي لا يفترض به أن يخاف في المكان المعد له ومن أجله..

هي معادلة موزونة الأطراف يجب أن توضع بعين الاعتبار: نفسية سليمة هي طفل سليم وشاب قويم ومجتمع صحيح لا آفة فيه ولا علة. هي أمور طفيفة ولكنها تستطيع أن تنتشلنا من القاع نحو القمة لو التفتنا إليها فقط.

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. شيء واحد أتيت على ذكره و لربما كان لب الموضوع
    “لم ندرك بعد أن نصف الشفاء معنويات “.. و ما أوهن من معنويات انسان في بداية تكوّنه و بناءه النفسي!
    كتبتِ عن موضوع يستحق الانتباه ..
    رائعٌ أسلوبك كما هو دائمًا ت

  2. مع أن خوف الأطفال من المستشفى والكادر الصحي حقيقة معهودة … إلا أن تخفيف هذا الخوف والترويح عنه شيء مطلوب كمحاولة للوصول إلى درجة الإحسان في الممارسة الطبية .. والحلول التي أوردتيها كما قلتِ ليس من الصعب تطبيقها والعمل بها
    لكن يبدو أن نظرية “نصف الشفاء معنويات” قد أصبحت في طي النسيان … إلا من رحم ربي ..
    جميل أسلوبك الذي يزداد إبداعاً في كل مرة ..
    دمتي بود

  3. قلبي مايتحمل سطور قليلة لكن فيها معاني كبيرة مساكين الاطفال لكن رحمة الله واسعة الله يشفي كل مريض

  4. ناصر..شكراً ، سعيدة جدددددددداً بوجودك هنا 🙂
    دعاء..تعليقاتك هي الأروع يا رفيقة ..شكراً لاهتمامك وللوقت الذي تمضينه في قراءة ما اكتب 🙂
    هالة..اكتب نتيجة للتشجيع والدعم الذي ألقاه منك ومِن الذين هم من أمثالك 🙂
    ماما الغالية..آمييين ياارب..سعادتي بتعليقك لا أجد لها حدود ولا وصف..لا عدمني الله إياكِ 🙂

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى