انت نفسية

زوايا العدد السادس

الكاتبة: د.ديمة الشافي

(أنت نفسية).. هل قد نعت بها أحداً لم تكن نفسيته على ما يرام؟ أو هل قد قيلت لك هذه العبارة في يوم من الأيام كان فيه مزاجك غير صافي أو أنك لم تكن قد نمت جيداَ؟  أستطيع أن أجزم أنه ليس بيننا من لم تمر عليه هذه الكلمة ولو مرة واحدة نشير بها إلى كل تصرف يخرج عن طور المثالية وإن كانت النفس البشرية مجبولة على الصعود والهبوط والتأرجح بين السعادة والحزن.

أبغض هذه الكلمة ليس لقلة بلاغتها أو لعدم صحتها ولكن لأنها مشربة بالعيارة والإنتقاص الظاهر للمريض النفسي الحقيقي وبالدليل أن دائما ما يرد متلقيها : لا بسم الله علي ، أو ينفيها بقوله : بل أنت النفسية باعتبار أنها مسبة وطعن في شخصيته.

من يرى  صاحب المرض النفسي الحقيقي فإنه بكل تأكيد سيتوقف عن استعمالها إلى الأبد ، فالمريض النفسي حولنا هو أشد المرضى معاناة وأكثرهم صبرا ً، ففي حال أن مرضى الأمراض الجسدية يجدون تعاطفاً ومؤازرة من الجميع فإن المريض النفسي يجد صداً وجحوداً هذا إن لم يذق الأمرين في إخفاء المرض على مضض والتظاهر بتمام الصحة.

عندما يخطر في بالي كلمة ” الطب النفسي” ، تتهافت علي الكثير من الأفكار التي تحتاج للطرح ، أشياء كثيرة تستثيرني للحديث عنها ، معتقدات يجب أن نرمي بها عرض الحائط حتى تتهشم وتندثر فقد كان قسم الطب النفسي ومنذ الأزل الأرض الخصبة للشائعات والترهات والمفاهيم الخاطئة هو الفرد المظلوم بين أقسام الطب الأخرى اذ أضحى ضحية التحوير والسمعة السيئة وهو براء منها بلا شك.

وأكثر ما يهمني في هذا الجانب هو ما يطال المريض من ذلك الجهل وتلك الخرافات ، فهو الحلقة الأضعف من بين حلقات هذه السلسة وهو كبش الفداء لمجتمع لا يعي من الأمراض النفسية وأعراضها سوى تلك التي يتلقاها عن طريق الدراما التي تطرح تلك الفكرة لزيادة تعقيد الحبكة أو لرفع عامل الكوميديا بالعمل دون أدنى اعتبار لصحتها أو مقاربتها للواقع.

فالمريض النفسي في ظل قلة المعرفة بالأمراض النفسية لن يستوعب الأعراض التي تصيبه بدايةً ثم قد ينحاز لفكرة المجتمع التي تعيد تأويل تلك الأعراض لمس أو سحر أو عين فتكون مصيبته عند البعض فوائد فيصبح بعدها عميلاً مخلصاً للمقرئين والأطباء الشعبيين – من صدق منهم ومن لم يصدق-  إلى أن يتفاقم وضعه وهنا لا مجال ولا مهرب من زيارة الطبيب النفسي الذي يقع على عاتقه الحمل الثقيل اذ دائما ما يستقبل حالات متأخرة في طورها الأخير فيصعب عليه علاج المريض ويسوء مآل مرضه ، ومن هنا سيدخل  في الحلقة الأخيرة التي يداري فيها المجتمع والمحيطين به ويخبئ مرضه على أن لا تخدش سمعته. وقد لا يطلب الإجازة ولا حتى تقرير عن حالته ويتجرد من أبسط حقوقه حتى لا يثبت على نفسه العار المسمى بـ”المرض النفسي”.
في الواقع ،البعض لا يجد غضاضة في أن يسميه “مجنون” وما الجنون حقيقةً إلا الجهل ، والبعض الآخر سينتقص من دينه وقوة إيمانه فيتعاطى معه بنظرة مخضبة بالاستعلاء وسيقول : لو كان مؤمنا لما أصابه ما أصابه والبعض قد يتخذه غريماً له  فيستثنونه من بينهم ويجردونه من الإحترام ويصمونه بالعار الذي لا يتزحزح ولا ينضب إلى الأبد ، إن الغباشة والتضليل هي المسؤولة الأولى عن قصور فهم المجتمع  فالكثير يخشون هذا الأمر على حساب خشيتهم من أعراض المرض ذاته فيجازفون بالبقاء بعيدين كل البعد عن أي استشارة نفسية وإن كان ثمن هذا البعد باهظاً، فيجب أن نتذكر جميعا بأن المريض النفسي مجرد مريض يشبه تماماً مريض السكر -على سبيل المثال- ، وان المرض ابتلاء من الله وأن هذا المريض كان إنساناً صحيحاً لا يختلف عنك كثيراً بل قد يزيد عنك صلاحاً واستقامة وأنك ربما قد تستيقظ في يوم ما لتجد نفسك محله دون حول منك ولا قوة وبدون تأثير من ضعف الدين أو هشاشة في العقائد ،، هي أمراض بحد ذاتها ولها تفسيراتها العلمية ، ومسبباتها حتى أن بعض الأمراض قد “قد” تعالج بإجراء عمليات في الدماغ أو أخذ أدوية تزيد بعض الهرمونات وهو ما يثبت خلفيتها العلمية البحتة.
لنكن معهم لنساندهم لنحتويهم ونفهم طبيعة أمراضهم  فنزج بهم في قلب الحياة كل منهم على قدر استطاعته حتى يتمكنون من التكيف مع مرضهم ، إن الكثير من الأمراض تحتاج الدعم الكبير من الأسرة والمجتمع وهذا الدعم هو دواء الداء وهو عامل أساسي في تحسين مآل المرض ، فلنفعل إذن كما فعلت زوجة “جون ناش” التي وقفت بجانبه وتقبلته بمرضه حتى استطاع أن يحصل على جائزة نوبل بالرياضيات وهو مريض نفسي بمرض الفصام، أشد الأمراض النفسية فتكاً وأكثرها دمامة.

منذ اليوم الأول الذي لامست فيه تلك المعضلة  أخذت على نفسي عهداً بأن أرهن عاتقي لمهمة تحسين صورة الطب النفسي ومرضاه قبل كل شئ يجب أن نعمل جميعا وبمحاولات حثيثة على تهشيم تلك الصورة البالية وتمزيق ذلك الثوب الرث وأن نحتضنهم بيننا ونقدم لهم المساندة المستدامة والدعم المعنوي قبل المادي بكل ما نملك.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى