المناوبات و ما ادراك ما هي !

زوايا العدد السادس

الكاتبة: د.ديمة الشافي

تجربة المناوبة الأولى تجربة تستحق التدوين ، وأما مشاعرها وأحاسيسها فيجب أن تحفظ وتصان ولو بعد ألف مناوبة تليها ، فقد اعتدنا دائما في أيام دراستنا وتطبيقنا في المستشفيات على الحضور باكراً والمغادرة عند العصر كأقصى تقدير دون أن يكون لنا أدنى تصور عما يحدث فيها بين الفترتين ، ومن المؤكد بأنه ليس على غرار ما فات ستكون مناوبتك الأولى .

في مناوبتك الأولى ستجرب أن تبدأ مع الجميع ولكن لا تنتهي معهم،  أن يدق جرس نهاية الدوام وتجد الكل يرحل والكل يحمل أغراضه ويجري بها نحو الباب وترى السيارات تتزاحم عند المداخل ، لا بل المخارج  لتحمل سيل الراحلين تباعاً فيتضاءل عددهم تدريجياً إلى أن تجد نفسك واقفاً في ممر خال وقد كان يضج بالبشر ليس ببعيد ، وإن كان الفراغ صعباً ولكن العزاء أنه لا يظل طويلاً ، فلا تلبث جماعات الزوار أن تبدأ بالتوافد حتى يقطع ضجيجها صوت السكون الفائت فترى ذات المكان بحلة جديدة ، مكتظة بسلال الحلوى والورود وتسمع : (لا بأس طهور إن شاء الله) من كل باب تمر به إلى أن ينزل الليل فيكون الخلاء العظيم ، عندما يغلب عدد المرضى عدد الأطباء وتتجاوز شكواهم طاقة الساهرين من أجلهم ، فيعد الجلوس على كرسي أو النوم لسويعات والمشروط بيقظة العقل لأي منبه أو نداءسعة ونعيماً ، أن تجد نفسك تصلي على نفس اتجاه قبلتك ولكن ليس على سجادتك بل على سجادة الجميع و أن تنظر من النافذة فتجد قمراً يطل عليك بدل من شمس اعتدت رؤيتها في نفس المكان ، عندما تستلقي علي سرير وتتساءل كم من شخص نام على هذا السرير من قبلك وكم قلّصت وسادته إرهاقاً قبل إرهاقك وكم استباحت الإطلاع على الأفكار التي تدور في كل رأس وضع فوقها ، كم ليلة ليلاء مرت على هذا السرير وهو لا يعرف له صاحب وقد اعتاد على استقبال الضيوف في كل ليلة .

في المناوبة ستقيس تحملك ومشاعرك بحلة جديدة وتخوض غمار معركة لم تخض مثلها من قبل تقيس ذاتك ، قوتك ، جلدك وقدرتك على كبح جماح نفسك فإن كنت ليناً ستعصر وإن كنت هشاً ستكسر ، عندما تشرق الشمس وتغيب وتشرق من جديد وأنت في نفس مكانك ونفس ثيابك ، عندما تسترق اللحظات لتخبر والديك بأنك على قيد الحياة ، عندما ترى الممرضات يذهبن ثم يعدن لعملهن من جديد وأنت لم تبرح مكانك عندما يتحول الأطباء لأصدقاء كأصدقاء الغربة لأن الليل الطويل كفيل بأن يجمعنا على كف واحدة، عندما تتحسن علاقتك مع شخص لم تكن علاقتك معه جيدة وستعلم بأن تلك الليلة كفيلة بمسح خلافات الماضي جميعها لأننا سنعمل فيها على مبدأ ( أنا وابن عمي على الغريب) والغريب بلا شك هو العمل والصعوبات التي نجابهها سوياً في تلك الليلة سنتخذها غريماً لنا دون حول منها ولا قوة حتى ننهيها محاولين تلافي أي نقص أو خطأ قد يقع فيعود وباله علينا جميعاً ، وسنجتمع حتى ولو على قطعة من البسكويت فتكون كفيلة لكي تبني بيننا علاقة العيش والملح للأبد، عندما ينفلق الصباح ويأتي الجميع من بيوتهم مفعمين بالنشاط مهندمين اللباس وأنت ثيابك تدلي بدلوها فتحكي قصة ليلتك الفائتة بكل تفاصيلها ،وكثيراً في الماض ما كنت أعرف الطبيب المناوب بثيابه التعبة مثله ،وكم كنت أتمنى أن ألوذ بشئ من لذة تلك المناوبات التي لم أكن قد نلت شرف تجربتها بعد.

أحيانا كثيرة تصيبني وعكة من اليأس وأقيم مأدبة للبكاء في نهاية كل مناوبة وأشفق على نفسي كثيراً وخصوصا عندما أتصور أن مكاني الطبيعي في ذلك الليل هو في صالتنا الحميمة كما يكون باقي الناس ويجتمعون حول التلفاز عند نهاية الأسبوع ويشربون الشاي  الدافئ من أكوابهم الخاصة بهم ثم يطفئون الأنوار ويرحلون إلى فرشهم وتظل صورة الشاي الدافئ معلقة في رأسي فتذكرني بقول إحدى الطبيبات :اختاري تخصص لا يكون فيه مناوبات متعبة حتى تشربي الشاي ساخناً . قالت هذه العبارة بملئ قلبها بعد أن أمضت اثنتي عشر ساعة تتمنى كوباً من الشاي والذي عندما وجدت وقتاً لصنعه باغتتها مكالمة طارئة تركت على اثرها كوبها الحلم حتى يواجه مصيره وحيداً نحو البرد ثم الانسكاب.

ولكني أيقنت بعد أن تذكرت نفسي قبل مناوبتي الأولى بأن في المناوبات حياة مختلفة وتجربة فريدة تستحق التعب وتستحق المبادرة، نتعلم منها ما لا نتعلمه في أي مكان آخر ، كل تلك المشاعر أخاف أن تموت داخلي مع تكرار التجربة لكن أحاول أن أحييها في كل مرة أناوب فيها ، وأظل أحاول أن أتذكر بأني في حاجة لها أكثر من حاجتها لي وأنها تبني بداخلي شيئاً صلداً لا يمكن أن يبنى إلا بالمناوبات أو ربما أيضاً بالحروب..

مقالات ذات صلة

‫8 تعليقات

  1. جمييييل جداااا .. ابدعتي .غداً سيكون اول يوم لي في مشوار الامتياز … وازداد حماسي لتجربة اول مناوبه بأذن الله .. شكرا على هذا الابداع ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى