لماذا نعاني من قصر النظر؟

150127163929_why_are_we_short-sighted_512x288_thinkstock

مجلة نبض-BBC:

تشكل المعاناة من قصر النظر إحدى الشكاوى الأكثر شيوعا بيننا كبشر، لكن هل أساءنا في الأساس فهم أسباب هذا المرض، وسبل علاجه؟ في السطور التالية يدقق الصحفي العلمي دافيد روبسون “النظر” بشدة في هذا الموضوع بحثا عن إجابة.
عندما كنت في سن المراهقة، بدأت قدرتي على الإبصار تضعف ببطء، فاضطررت لارتداء نظارة. ومع البدء بارتداء نظارة ذات عدسات قليلة السُمْك إلى حد كبير، سرعان ما تطور في اتجاه نظارات ذات عدسات مزدوجة.
“لماذا يحدث ذلك؟”؛ سؤال طرحته على طبيب العيون الخاص بي، وأنا أرى تلك الأشكال الضبابية التي تلوح لي على لوحة قياس قوة الإبصار، بينما يرصد الطبيب قياسات بصري التي تشير إلى تدهوره بشكل أكبر. كانت إجابة طبيبي الدائمة عن السؤال واحدة: بوسعك أن تلوم جيناتك وعشقك للقراءة.
لم يكن لديّ ما يدعو للتشكيك في صحة رد الطبيب، فربما سمعته أنت أيضا من طبيبك الخاص إذا ما كنت مصابا بقصر النظر. لكن دراسات حديثة تشير إلى أن مثل هذه الافتراضات خاطئة تماما.
فالعديد من الأشياء الأخرى المرتبطة بالبيئة المعاصرة التي نعيش فيها قد تؤدي إلى تدهور القدرة على الإبصار. وكذلك، فإن اتخاذ بعض التدابير البسيطة قد يحول دون أن يعاني أطفالنا من تلك الرؤية الضبابية التي ابتُلِيّ بها جيلنا.
على أي حال، لم تبد فكرة الربط بين تدهور القدرة على الإبصار وعوامل الوراثة أمرا واقعيا بالنسبة لي.
فإذا كنت لا أستطيع التمييز – حرفيا – بين الصخرة وحيوان الكركدن إن لم أكن مرتديا نظارتي، أفلا يعني ذلك أن أجدادي كانوا سينقرضون عن بكرة أبيهم ولا يبقى لهم أثر – جيني حتى – عندما كانوا يتحسسون طريقهم، ويضيقون حدقات أعينهم، للتعرف على مسارهم وهم يمضون بين حشائش السافانا في غابر الأزمان؟
رغم ذلك، تنتشر المعاناة من قصر النظر بشكل وبائي، فنسبة من يحتاجون لارتداء نظارات في أوروبا والولايات المتحدة تتراوح ما بين 30 إلى 40 في المئة من مجموع السكان، وهي نسبة ترتفع إلى نحو 90 في المئة في بعض الدول الآسيوية.
ولذا، فإن كانت هناك جينات تسبب المعاناة من قصر النظر، فقد تمكنت تلك الجينات من البقاء لآلاف السنين، بغض النظر عن العيوب الواضحة التي تتسم بها.
اسأل أحد سكان الإسكيمو
في الحقيقة، كان يفترض لتلك الأسئلة المتعلقة بهذا الأمر أن تجد جوابا قبل نحو نصف قرن من الزمان، وذلك بفضل تجارب ما يعرف بـ الـ”إنويت” أو “الإسكيمو”؛ وهو مصطلح يشير إلى تلك المجموعة من البشر التي قطنت مناطق في شمال الكرة الأرضية، من بينها كندا، على مدى آلاف السنين.

فبينما كان الجيل الأكبر سنا من الإسكيمو يخلو تماما من وجود أي حالات مصابة بقصر النظر، فإن ما بين 10 – 25 في المئة من الأطفال المولودين لآباء ينتمون إلى ذلك الجيل كانوا بحاجة لارتداء نظارات.
وتعقب نينا ياكوبسِن من مستشفى جامعة غلوسترب بكوبنهاغن بالقول:” لم يكن ذلك ليصبح احتمالا قائما قط، إذا ما تعلق الأمر بمرض ينتقل من خلال الجينات”.
وعلى مدار ذات الفترة التي ظهرت فيها تلك الحالات المصابة بقصر النظر، كان الإسكيمو قد بدأوا في التخلي عن نمط حياتهم التقليدي القائم على صيد الحيوانات والأسماك، لتبني نمط حياة أكثر شبها بذاك السائد في دول الغرب، وهو ما يمثل سببا مرجحا أكثر من غيره لتفسير تدهور قدرتهم على الإبصار.
يقول إيان فليتكروفت من المستشفى الجامعي للأطفال في دبلن:” قصر النظر مرض مرتبط بالعصر الصناعي”.
وتشكل عوامل، مثل انتشار التعليم وحملات تعليم القراءة والكتابة جزءا من التغير الذي حل بالعالم مع العصر الصناعي، وهي عوامل يمثل وجودها أحد التفسيرات الأكثر شيوعا للمعاناة من قصر النظر.
للوهلة الأولى، يبدو الدليل على صحة ذلك قويا: فما أن يلقي المرء نظرة على هذا العدد الهائل من النظارات التي تلمع طوال الوقت على وجوه الحاضرين في أي قاعة للمحاضرات بالجامعة أو بأي مؤتمر أكاديمي، حتى يشعر بأنه قد عثر على برهان يثبت وجود مثل هذه الصلة.
لكن الدراسات المتعلقة بعلم الأوبئة تشير إلى أن تأثيرات عوامل مثل التعليم ومحو الأمية على الإصابة بقصر النظر أقل كثيرا مما كان يُعتقد.
وقال فليتكروفت: “كلما أمعنا في دراسة هذا الأمر، وتعرفنا على حجم ما يقرؤه الناس، وجدنا الرابط ما بين الأمرين قد تلاشى”.
أما ياكوبسِن فتقول إن نتائج دراسة كبيرة تناولت متابعة تطور أداء الأطفال في ولاية أوهايو الأمريكية، أظهرت عدم وجود ارتباط على الإطلاق بين قصر النظر والقراءة، وذلك بالرغم من أنه يستحيل أن نستبعد بشكل كامل وجود تأثير للانغماس في القراءة على ضعف الإبصار.
بدلا من ذلك، يقول كثيرون الآن إن البقاء لفترات أطول داخل المنزل هو العامل الذي يؤثر بشكل أكبر في مسألة تدهور القدرة على الإبصار، وليست القراءة.
فهناك دراسات تلو أخرى جرت في بقاع شتى من أوروبا إلى استراليا وآسيا، خلصت إلى أن من يقضون وقتا أطول خارج المنزل، أقل تعرضا للإصابة بقصر النظر، مقارنة بمن يقضون أغلب أوقات حياتهم حبيسي الجدران.
كيف ذلك؟ ثمة تفسير يحظى بالانتشار مفاده أن ضوء الشمس يزيد، بشكل ما، قدرة العينين على الإبصار.
أجرى الباحث سكوت ريد من جامعة كوينز لاند للتكنولوجيا تجربة مؤخرا زود فيها مجموعة من تلاميذ المدارس بساعة خاصة تسجل، كل ثلاثين ثانية ولمدة أسبوعين، كل حركة يقومون بها، وشدة الضوء الذي يتعرضون له.
وكشفت الدراسة عن عدم وجود فوارق في مقدار النشاط ما بين الأطفال الذين ينعمون بقوة إبصار جيدة ونظرائهم الذين يرتدون نظارات، وهو ما استبعد إمكانية أن يكون النشاط البدني، والتمتع بصحة جيدة بوجه عام، سببا في حماية العينين.

بدلا من ذلك، بدا أن قياسات عدسات النظارات، التي تستخدم لتصحيح الإبصار، تعتمد – تقريبا على وجه الحصر – على الوقت الذي كان يُقضى تحت أشعة الشمس.
وعموما، تركيز ضوء الشمس الساطع يمكن أن يكون أقوى بآلاف المرات من تركيز الأضواء المُستخدمة داخل المباني (على الرغم من أن أعيننا ربما تخفي مثل هذا الاختلاف). وهكذا، كلما زادت كمية ضوء الشمس الذي ينعم به الأطفال، كانوا أقل حاجة للنظارات.
من جهة أخرى، ربما يحفز ضوء الشمس جسم الإنسان لإنتاج فيتامين (د) المسؤول عن صحة جهاز المناعة والدماغ.
كما أنه قد يكون مسؤلا عن تنظيم صحة العين. وكذلك، ربما يكون ضوء الشمس مُحفزا على إطلاق مادة الدوبامين الكيميائية التي تصل إلى العين مباشرة.
وتنجم الإصابة بقصر النظر عن استطالة مفرطة لمقلة العين، مما يزيد من صعوبة أن تُجمِّع العدسة الصورة على الشبكية، ولكن يبدو أن مادة الدوبامين تكبح جماح مثل هذا النمو المفرط، لتُبقي على طول المقلة في حيزه الطبيعي.
الاستعانة باللون الأزرق
بدلا من الفرضيات السابقة، ربما يتعلق الأمر باللون. فالطول الموجي للون الأخضر وكذلك الخاص باللون الأزرق يتجمعان على الأرجح أمام شبكية العين، بينما يتجمع الطول الموجي للضوء الأحمر خلف الشبكية.
ونظرا لأن الأضواء المستخدمة داخل المباني تميل إلى أن تكون أكثر حمرة من أشعة الشمس، يؤدي هذا التباين إلى إرباك الآليات التي تتحكم في حركة مقلة العين.
ويقول “تشي لو” من جامعة ملبورن: “هذا الاختلاف يجعل العين تشعر أنها لا تركز على المكان الأمثل بالنسبة لها، ولذا يتعين عليها أن تتمدد بشكل أكبر لتعويض ذلك”.
وقد اكتشف “تشي لو” أن الصيصان (صغار الدجاج) التي ربيت في مكان يغمره الضوء الأحمر كانت أكثر عرضة للإصابة بقصر النظر، مقارنة بتلك التي رُبيت في أماكن تصطبغ الأشياء فيها باللونين الأزرق أو الأخضر.
أما فليتكروفت فيعتقد أن المشكلة تكمن في الفوضى التي تتناثر بها الأشياء التي تشغل المجال البصري للمرء. ولرؤية ما يعنيه هذا الرجل، بوسعك إلقاء نظرة على ما يحيط بك.

ويقول فليتكروفت: “إذا ما نظرت إلى شاشة الكمبيوتر المحمول، فستجد أن كل شيء خلف هذه الشاشة يقع خارج بؤرة تركيزك من الناحية البصرية، إلى حد بعيد للغاية. وهكذا، فإذا ما رفعت عينيك من شاشة الكمبيوتر إلى إحدى الساعات المحيطة بك، ستشعر برد فعل كبير، فالساعة ستصبح في بؤرة التركيز، بينما ستبدو الكثير من الأشياء القريبة من محيط شبكية العين ذات رؤية ضبابية”.
وعلى عكس ذلك، يبدو الأمر في الهواء الطلق مختلفا، فالأشياء في هذه الحالة تقع عادة على مسافات أكبر، وهو ما يوفر رؤية أوضح، تساعد العين على تنظيم حركتها ومدى تمدد مقلتها.
ومن المأمول ألا تنحصر أهمية مثل هذه الافتراضات في الجانب الأكاديمي فحسب، وذلك بالنظر إلى أنها قد تقودنا في النهاية إلى تطوير سبل جديدة لعلاج المصابين بقصر النظر.
فعلى سبيل المثال، يأمل الباحث “تشي لو” في إجراء تجربة تتوفر في إطارها مصابيح زرقاء للأطفال المصابين بهذا الخلل البصري.
ولا تقتصر آمال الباحث على أن يؤدي هذا الأمر إلى الحد من وتيرة التدهور في قدرة هؤلاء الأطفال على الإبصار، وإنما يتجاوز ذلك إلى الطموح في أن تؤدي هذه الوسيلة إلى تصحيح ذاك الخلل تماما.
فخلال التجربة التي أجراها على صغار الدجاج، وجد “تشي لو” أن من شأن إبقاء تلك الطيور الصغيرة بضع ساعات يوميا تحت مصباح أزرق، إزالة الأضرار التي حلت بقدرتها على الإبصار جراء المكوث تحت الضوء الأحمر، بل إن استخدام هذه الطريقة يؤدي إلى إعادة هذه القدرة إلى سيرتها الأولى.
اكتشاف بالصدفة
أما الباحث فليتكروفت فقد أشار إلى أن هناك تجارب واعدة لاستخدام عدسات لاصقة تؤدي الاستعانة بها إلى تقليل الضبابية التي تشوب ما يُعرف بالرؤية المحيطية، تلك المتعلقة برؤية الأشياء الواقعة في محيط الشبكية.
كما يشعر هذا الرجل بالتفاؤل إزاء إمكانية الاستفادة من دواء للعين على هيئة نقاط يحمل اسم “اتروبين”. وقد عُرِف هذا العقار طويلا بقدرته على إبطاء الإشارة التي تؤدي إلى تمدد مقلة العين ما يصيب المرء بقصر النظر.

لكن الآثار الجانبية غير المرغوبة لهذا العقار، مثل اتساع حدقة العين وخلق هالة ترى حول مصادر الضوء، أدت إلى وقف استخدامه من قبل.
غير أن استخلاصات بحثية، تم التوصل إليها مؤخرا على سبيل الصدفة، أظهرت أن فعالية هذا العقار لن تقل بأي شكل إذا ما أُعطي بجرعة تبلغ نحو واحد في المئة فحسب، من الجرعة التي كانت تعطى للمرضى سابقا.
وفي مثل هذه الحالة، يفترض أن تكون الآثار الجانبية للدواء في أدنى مستوياتها، وهو ما يعني التوصل إلى اكتشاف قاد إلى تجديد الاهتمام بذلك الدواء.
ولكن في الوقت الحالي، يشدد فليتكروفت على ضرورة الحرص على ألا نُقدِمُ على أي تصرف متعجل.
فمن بين المفاهيم الخاطئة الشائعة مثلا أن ارتداء النظارات نفسها يؤدي إلى تدهور القدرة على الإبصار. وتشير تلك البراهين التي يسوقها البعض لتأكيد هذا المفهوم إلى ضرورة الاستغناء عنها بشكل كامل.
لكن تجربتي الشخصية كشفت عن أن هذا أمر مضلل للأسف، فبوحي من كتاب مثير للجدل يحمل عنوان “بصر أقوى بدون نظارات”، قررت خلعها، أملا في أن يؤدي ذلك إلى تحسن قياسات قوة الإبصار لدي. لكن بدلا من ذلك، تدهورت هذه القياسات بواقع الضعف، خلال ثلاث سنوات.
يقول فليتكروفت: “ثمة مبعث قلق شائع يفيد أن النظارات تجعل الأمور أسوأ. لكن الإجابة هي أن ذلك ليس صحيحا”. ويضيف: “إذا ما عملت على التيقن من أن بوسع أطفالك الإبصار بشكل سليم، فأنت إذن تقوم بما هو صائب.”
أما الذين يودون التحرك فورا، يتفق غالبية الباحثين على أن تشجيع الأطفال على اللعب في الهواء الطلق لن يلحق أي ضرر بقدرتهم على الإبصار. كما أن بعض الدراسات التي أجريت في مدارس صينية أظهرت بالفعل أن قدرا معقولا من النجاح تحقق على هذا الصعيد.
ويقول فليتكروفت: “إذا ما تُرك البشر إلى بيئتهم الطبيعية غير المقيدة بجدران، فلن يعانوا من قصر النظر. تشجيع الأطفال على قضاء وقتهم في الهواء الطلق لن يجلب إلا الخير”.
بالنسبة لي، أود لو كان بمقدوري الإلمام بكل هذه المعلومات عندما كنت شابا. الآن، استخدم عدسات لاصقة أدت لتصحيح قدرتي على الإبصار بالكامل تقريبا. ولا يعدو الشعور في بعض الأحيان بالتهيج أو الجفاف في العين سوى بواعث قلق لا تذكر في سياق الصورة العامة للأمور.
لكن عندما استيقظ من نومي، وأجد أنني عاجز حتى عن أن أتعرف على زوجتي التي بجانبي، لا يسعني سوى أن آمل في أن يكون بمقدور الأجيال المقبلة أن تنعم برؤية واضحة وصافية كانت في يوم ما حقا مكتسبا لأجدادنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى