كيف تبني بئراً ؟
الكَاتب : د. صَالح الخَلف *
بعد تخرجي وحصولي على الزمالة (الدكتوراه ) في طب وجراحة التجميل وإعادة البناء، وجراحة الحروق وجراحة اليد، وحصولي -بحمدالله – على التخصص الدقيق في الجراحة المجهرية وجراحة الوجه والجمجمة، اقدم اليكم خلاصة تجربة لعلّ القاريء الكريم أن يجد فيها من الفائدة ماينفع حيث أن العرب قديما قالت السعيد من اتعظ بغيره، قدمت إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية بعد أن تشرفت بالعمل واكتساب المهارات اللازمة في بلدي المملكة العربيةالسعودية في مجال تخصصي وهذا ماأضاف كثيرا من المعاناة الي معاناتي مع الغربة واللغة والبعد عن كل ماتعارفنا عليه وإلى قرائنا الكرام قصة بداياتي مع هذه الظروف والتي تعتبر تحدياً لكل مبتعث يقدم الى بلد جُلّ اهتمامها الاعتزاز بلغتها بل وتفرض عليه الاتقان اللغوي المتقدم للحصول على ثقة تؤهلك للحصول على مزيد من العلم.
أدركت حين وصولي إلى جمهورية المانيا أني أقدمت على صعاب لم أقدّر لها قدرها الحقيقي، فقد تحولت من طبيب مؤهل تلقى التدريب علي يد أمهر الأساتذة العالميين الى إنسان لا يفقه شيئاً مما يقال له، ولايستطيع أن يتحاور حتى مع طفل يلعب الى جانبه في الطريق، وأذكر في أول يوم وصلت فيه أنني لم استطع الحصول على طعام لصعوبة التخاطب ولعدم قبول المنطقه التي نزلت بها للغة الانجليزية، وقد عانيت كثيرًا في البدايات حتى ظننت أني تجاوزتها بحصولي على موافقة العمل وإتقان المفردات وفهم حقيقة مايحصل حولي، حتي كان اول يوم في الالتحاق بالمستشفى الجامعي والذي بدأت العمل به والذي كشف لي حقيقة الفرق بين الحياة العملية وطريقة التعامل فيها وبين المرحلة الانتقالية وهي مرحلة التدرج اللغوي في معهد اللغة، وايقنت اني لازلت قبل خط البداية، ولكن كيف تمكنت من اجتياز تلك المرحلة؟
بعد توفيق الله عز وجل استعنت بالله أولاً واخراً ثم حددت المشاكل التي اعترضتني وحددت سببها الرئيسي الا وهي اللغة، فلا ثقة للناس بك الا وانت تجيد اللغة، ولاتستطيع ان تترجم ماتعلمته من قبل الا من خلال الجسر اللغوي وهكذا حددت اصل المعاناة ومن ثم تذكرت الفرق بين حفر البئر وبين بنائه وبنيت عليه أساس الحل، فحفر البئر يبدأ من فوق الى أسفل ولكن بنائه يكون من أسفل الى فوق، فعندما نبحث عن حل فإن الحل يجب الا يكون جزئياً كحفر البئر فلا يعني إحداث حفرة في الارض ان هذا هو البئر فالهدف منه الحصول على ماء هو عصب الحياة ولابد لذلك من استمرارية لهذه الحفرة فلو تُركت لتسبب الماء في تآكلها ومن ثم طمرها فلابد لهذا الحل من دعم أياً كان ،ومن ثم يأتي دور البناء من الاسفل.
فبدأت بمن حولي وقسمتهم، فإذا بي أكتشف أن المتواجدين ممن حولي هم من الأطباء وبجميع تصنيفاتهم العلمية، ومن طلبة بمختلف درجات تقدمهم في السنوات الدراسية، وبدأت اتابع الطلبة وكيفية قيامهم بمهامهم المناطة بهم فاكتشفت أن النظام الدراسي يعتمد كثيراً على الجهد الشخصي والذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى الخطأ وهو نتيجة طبيعية في حال عدم التوجيه وخصوصاً في المجال التطبيقي، من هنا بدأت حفر البئر وأخترت له أرضا ليست بالصلبة الا وهي فئة الطلبة، فهم ألين في تقبل الملاحظات والتنازل قليلا عن الاعتزاز بشيء مقابل الحاجة الى التعلم فبدأت بإخبارهم ان ماتقومون به يمكن ان يُنجز بطريقة أخرى مارأيك في ان تختبرها بنفسك؟ فتمكنت من ايصال المعلومة الي هذه الفئة بلا صدام فكري أو حضاري متجاوزًا مسألة العجز اللغوي إلى مرحلة من الثقة التي بدأت تؤتي ثمارها بمبادرة الطلبة لي بالسؤال واظهار الارتياح لما أقوم به.
في بداية حفر البئر تظهر علامات الرطوبة في الارض وهي أول علامات الاتجاه الصحيح في إتخاذ القرار ولكني لازلت أحفر هذا البئر فهناك مخاطر ومن ضمنها وجود عقبات صخريه عتيده الا وهي العجز عن التعبير، فكان المعول لكسر هذه التراكمات الصخرية اني اعتمدت -بعد الاعتماد على الله – ان أعتمد مبدأ المقايضة ،وهو اني اشرح لكم باللغة المشتركة بيني وبينكم وهي اللغة الانجليزية, مقابل ان تعيدوا عليّ ما قلته بلغتكم الالمانية وان تساعدوني في التخاطب المباشر, وبدأت مرحلة البناء عندما لانت الارض وبدأت بوادر ظهور الماء وهيَ أن اعلّم الطلبة مقابل الاعادة ومن ثم بدأت مرحلة التثبيت لهذا البناء باستخدام نقاط الضعف وهل يمكن تحويلها الى نقاط قوة ؟ نعم يمكن تحويل نقاط الضعف الى مولدات قوة جبارة رهيبة اذا اعتمدنا مبدأ نيوتن والذي يقول لكل فعل ردة فعل مساويةله في القوه ومعاكسة له في الاتجاه،بمعنى كلما واجهتك مشكلة فبقدر قوة هذه المشكلة فإنه يمكن في حال توجيها الى الاتجاه المعاكس للمشكلة والذي يصب في صالحك فإنه بإمكانك صنع العجائب، ولـ أُبيّن لكم ماذا يعني هذا الكلام فإن التمكن من اللغة الانجليزية، والجهل بل والضعف في استخدام اللغة الالمانية يعتبر ضعفا بالنسبة لك بين الاطباء الالمان عموما ،ولكن لو عكست المسألة فماذا سيحصل؟
إن الاعتزاز اللغوي عند الألمان يقابله ضعف في اللغة الانجليزية عندهم ولذلك هم بحاجة دائمة لمن يجيد هذه اللغة كتابة وتحدثاً ،وفي حال الكتابة كمثال فان نشر الأبحاث التي تتحدث عن انجازاتهم العلمية والتي لو كتبت باللغة الانجليزية لوصلت إلى شريحة عالمية أكبر من الانتشار المحلي في حال نشرها بالألمانية، كبير الأثر في أنفسهم وطريق مُعبّد لكسب ثقتهم ومن ثم فتح مجالات التعليم، فنقطة ضعفك حقيقة هي نقطة قوة جبارة يحتاجها من تتدرب علي يديه ومن هنا استطعت ان اعكس اتجاه المشكله إلى الاتجاه الاخر وطلبت منهم أن يشرحوا لي مايودون ايصاله إلى الاخر وسأتكفل بالكتابة وبالتقديم الشفهي بالطريقة التي يرونها مقابل أن تعلّمني مايعني ذلك بلغتك.
ومن هنا بدأت مرحلة تثبيت البناء بما يناسبه من مواد صالحة للزمان وللمكان مستعينا بعد الله عز وجل بمواد هي في حقيقة مكوناتها في حال تحليلها ليست الا حاجة المجتمع الذي امامك لما تملكه انت اكثر منهم، وبهذا استطعت أن أحفر أول بئر لي في أرض المعرفة الألمانية وأن استخرج منها ماءً زلالاً لطالما تعطشت اليه والذي لم يأتي بين يوم وليلة، ولكن بكثير من الصبر في الحفر وكثير من الدعاء والابتعاد عما يمكن أن يقدح في مصداقيتك العلمية، وأولها أن تكون مثالا للانضباط في الحضور والصدق والامانة واضعًا بين عينيك دوما (واتقوا الله ويعلمكم الله) وأنك لاتمثل نفسك فقط ولكنك تمثل بلدك المملكة العربية السعودية.
* مستشار جراحة التجميل والجراحة الترميمية بمستشفى القوات المسلحه بالمنطقة الجنوبية ,رئيس قسم البحوث بمستشفيات القوات المسلحة بالمنطقة الجنوبية ,دكتوراه في الطب والجراحة التجميلية وإعادة بناء الانسجة والجراحه التكميلية -معادلة الهيئة السعوديه (دكتوراه) في الجراحة الترميمية والتجميلية.
-الزمالة الالمانية في الجراحة المجهرية و الزمالة في اعادة تشكيل الجمجمة , جامعة ميونخ التقنية،مستشفى بوقن هاوسن جمهورية المانيا الاتحادية, عضو مشارك في الجمعية الألمانية في طب وجراحة التجميل اليد ,أستاذ مساعد زائر في جراحة التجميل وجراحة اليد،عجمان كلية الطب،الإمارات العربية المتحدة.
… أهلا بك د.صالح وبتجربتك في مجلة نبض … خير مثال في الصبر والكفاح ضربته لنا … لعلها إلهام لنا لبناء مستقبلنا بذكاء وفطنة لاجتياز العقبات سرات كانت لغة او غيرها … بوركت
د/صالح … قصتك رائعه بقدر معاناتك التي تجلت بين السطور وانجازاتك التي تتحدث نيابتةً عنك
غداً إختباري الباطنه … بعد أن قراءة المقاله أصبحت شخصاً مختلف … وكأنك أوقدت داخلي شعلة المثابره من جديد
لا أخفي عليك كدت أبكي خجلاً من نفسي … فمعاناتنا لا تقارن بما قصصت …
أدركت أن الصبر مفتاح الفرج .. والإدراك شيء والعلم بالشيء شيء أخر …
شكرا لك…. وسأبني بئراً خاصاً بي غداً 🙂 إن شاء الله