الكاتبة: إخلاص الصاعدي
أكنتم يوما من هواة الشعر أو النثر, و لكنكم اضطررتم مرغمين إلى أن تجعلوه في المرتبة ما قبل الأخيرة من أجل الطب, إليكم أخط كلماتي هذه عندما طلب مني أن أكتب أول مقال تجريبي للمجلة, شعرت بشيء من التردد حقيقة ذلك أنني لا أستطيع أن أتذكر على وجه الدقة, متى كانت آخر مرة كتبت فيها صفحة كاملة بالعربية حدّقت في الصفحة البيضاء الخالية كثيراًبدلت أقلامي مرات عدة, عسى أن يكون بعضها أقدر من البعض الآخر على استجلاب الأفكار, تخيّلت السطور تتحداني بكم من الكلمات أستطيع ملئها, كيف أصبحت هكذا ؟ و منذ متى غدا هذا حالي مع الكتابة, من أيام الثانوية التي اعتقدت حينها يقينا أن الأدب “ لا يؤكل عيشاً “ و أن انصرافي للعلوم هو الاستثمار الحقيقي لمستقبلي, و أن السويعات التي أقضيها في حل المعادلات و حفظ قوانين الكم و الطاقة أفضل وأدوم نفعاً من خط بضع وريقات لن يقرأها سواي , أم كانت بداية الانحدار مع بداية سنيّن الجامعة, حينما ظننت أن الكتابة من صنوف السلوى التي تمارس في أوقات الفراغ فقط , و لكن أين أوقات الفراغ تلك, هل توجد أصلاً ؟ و إن وجدت فرضاً , أ سيقبل عقلي المتخم صنوفا أخرى من المِرَان , أم سيثور تضامنا مع موسم الثورات العربية مطالباً بقسط من الراحة, كي يتمتع بعمل الـ( لاشيء ) .
أذكر أيام الابتدائية, عندما كانت معلمة اللغة العربية – شكر الله لها صنيعها– تنسخ جملاً من تعبيري على السبورة لتقتبسها الطالبات في مواضيعهم, مشيدةً بالموهبة الأدبية الصاعدة, كان الخيال يحملني حينها على سحائب وردية من الأحلام و أرى اسمي يعلو زوايا الصحف, حتى ظننت أني لم أخلق لغير الصحافة و لم يخلق لها غيري , لله در أحلام الطفولة ما أنقاها, و أذكر أيضا أيام الإعدادية لما كانت والدتي – حفظها المولى- تزين بتوقيعها صفحاتي, و تبارك بتعليقاتها قصصي القصيرة كم اشتقت لأيام كانت فيها مفكرتي عالمي الصغير الذي أهرب إليه من عالمي الكبير, أشتكي إليها خيبات أملي, أبثها همومي,أشاركها أسراري,واستودعها آمالي لملمت بقايا شجاعتي, و كتبت بضعة سطور لأنني ما زلت أؤمن بأن الكتابة إحدى المهارات أو إن شئت قلت المَلكات التي ما إن تحبها لا يمكنك الاستغناء عنها .
و جرت الكلمة أخواتها لا أخفيكم استنكاري لمنظر صفحة تخلو تماماً من ذكر أشياء على شاكلة ” التفاعلات الكيميائية الخلوية” أو ” أعراض قرحة المعدة” أو ” تفرعات الشريان الأورطي” , إنها تبدو حقاً كملاذ آمن ينتشلني من ترهات الطب لوهلة يسيرة, بينما كنت أكتب عشت إحدى تلك اللحظات التي أخوض فيها نقاشاً حاداً مع ذاتي , نقاشاً يتناول صلب هويتي أيعني انصرافي لدراسة العلوم أني قد طلّقت الأدب إلى غير رجعة!!, و هل يجبرني انشغالي بالطب إلى تنحية الكتابة جانباً إلى أجل غير مسمى ؟ كلا و ألف كلا !! إني كنت و مازلت و سا أظل أستمتع بالأدب كتابة و تذوقاً, و سيدفعني الحنين إليه و إن أبعدني ضيق الوقت عنه.
إن صحافتنا لتفخر بأسماءٍ – و إن كانت قلة – نجحت في أن تجمع بين علوم الطب و الكتابة الأدبية بحذاقة و مهارة, و تثبت لنا أنهما متكاملان لا متضـادان كما نحسب, على سبيل المثال لا الحصر قلم الطبيب المبدع وليد فتيحي – و هو غني عن التعريف طبعاً – الذي يعطرنا بمقالاته الدورية, ليبثها هموما حمّلته إياها مهنته, و يفتح فيها نافذة يتواصل من خلالها مع لم تخنهم أبدانهم بعد بفضل الله, و لكـنهم ليسوا في غنىً عن خلاصة تجاربَ عميقةٍ ليضيفوها إلى رصيد خبراتهم , بطبيعة الحال, هناك دوماً من لا يسعفه المنطق ليجد ما يرد به حكمة أطباء حنكتهم الحياة , سوى أن يقول ” فليلتزم كلٌ بتخصصه” , و هذه حيلة بائسة لمن لا يملك للأمر جواباً, و لو سكت لكان أستر لقلة علمه. إن شغف الطبيب لا يختص بأمراض الإنسان و تطبيبها, بل هو شغف للعلم نفسه و نهم يدفعه للاستزادة من كل صيبٍ نافع, أي فهم قاصر ذا الذي يحصر الطب بعلاج الأجساد, أو لم يكن الرازي و ابن سينا و ابن رشد أطباءً أدباءَ فلاسفة؟ إلى جانب كوكبة من العلوم الأخرى, هل اختبرتم يوماً شعوراً مماثلا لما وصفت, هل اشتقتم على أقلامكم و محابركم, أم هي اشتاقت لديكم؟ إن لم تجدوا العزيمة الكافية لمعاودة الكتابة فــتذكروا أن علمكم قد يداوي بإذن الله المئات أو الآلاف على أحسن تقدير إلا أن أقلامكم ستداوي أضعاف ذلك.