الكاتب : متعب العتيبي
يندر أن نجد طبيباً في العالم لم يتتلمذ على مؤلفاته بشكلٍ أو بآخر، إنه الطبيب الجرّاح والفنان المبدع، د. فرانك نترFrank Netter ,ولد نتر بروح فنان متذوق للجمال ولتفاصيل الطبيعة النابضة بالحياة، هذا الشوق دفعة للالتحاق مبكراً بالأكاديمية الوطنية للتصميم في مدينته، نيويورك ليمارس الفن التشكيلي, كان يوفق بين هوايته وتعليمه بأن يحضر في المساء لدروس الأكاديمية بينما يرافق اصحابه صباحاً إلى مدرستهم الثانوية لاكمال دراسته النظامية, لم يستغرق الكثير من الوقت لاظهار براعته في الرسم وجذب الانتباه إليها، لكن الرغبات والامنيات لاتدوم طويلاً حتى ترتطم بصخور الواقع,كانت والدته تعارض حياته الغارقة في الفن الذي لا يؤمن في نظرها لصاحبة شروط الحياة الكريمة، فدفعت به رغماً عنه للالتحاق بكلية الطب بجامعة نيويورك في 1920م واستمر يعمل هاوياً في تنفيذ الرسومات لبعض الصحف المحلية.
داخل كلية الطب عاد د.نتر لابهار اساتذته ببراعة رسوماته التي تحاكي الواقع والتي كان يستخدمها للمذاكرة والحفظ, فانهالت عليه طلباتهم لتنفيذ الصور اللازمة لكتبهم ومقالاتهم العلمية مقابل مبلغ من المال، وهكذا اصبح لديه دخل مالي يتمكن من خلاله تأمين مصاريفه وتكاليف الدراسة في كلية الطب، مما جعله يكافح في شبابه مرتين، الأولى في دراسة الطب والثانية في تحمل مسؤلية نفقاته، فليست كل الأشياء الجميلة في الحياة تأتي بالمجان ! مرت السنوات وانتهت فترة الدراسة والتدريب، فافتتح عيادته الخاصة وبدأ بعلاج المرضى كجراح، لكن قلبه لايزال مسكوناً بالحبيب الأول, هكذا نرى كيف أن رغبات وآمال الصغار غالباً ما يُـخلفها ويحطمها الآباء بدعوى تأمين المستقبل! فتح أمام د. نتر باب جديد، حين دعته شركة سيبا السويسرية للأدوية، نوفارست حالياً، أن يعمل لديها في تنفيذ الرسومات الخاصة بدعايات الأدوية، وما أن نشرت المجموعة الأولى حتى توالت استفسارات الأطباء على الشركة حول الصور المميزة, كانت أحداث الأيام تدفع به شيئاً فشيئاً نحو دلتا النهر واعادة التفكير في مسار حياته المهني, يقول د.نتر: لمست أن حاجة الناس إلى رسوماتي أكثر من حاجتهم إلى عيادتي، لذا قررت أن اترك الجراحة نهائياً, وفعلاً، في عام 1936م، وضع د. نتر المشرط جانباً إلى الأبد وتفرغ للعمل كمحترف للرسوم التوضيحية في مجال الطب.
قد يظن البعض بأنه اختار المجال الأسهل، لكن د.نتر يقول: كان عملي، كفنان، يحتّم علي أن أكون متخصصاً في جميع فروع الطب, وأن أخاطب كل متخصص بمصطلحاته ، لذا كان علي أن أدرس واذاكر ربما أكثر من أي شخص آخر في العالم ! استمر العمل دؤباً، تدفعه الحماسة وتلونه الموهبة المُستثمرة وتوجهه الأخلاق الانسانية العالية, يقول د.نتر: إن الهدف النهائي من تعلم الطب هو الأخلاق وأن تدرك أن المريض إنسانٌ ينبض بالحياة, وليس مجرد شيء وهذا ما أحاول ايضاحه في رسوماتي, أنهى د. نتر مجموعته الطبية المصورة والتي تتألف من 13 جزءً مقسمة الى فصول بحسب أجهزة الجسم، كل فصل منها يعرض رسوماً في التشريح وعلم الأجنة ووظائف الأعضاء وعلم الأمراض و العلامات السريرية, لأهم الأمراض التي تصيب هذا الجهاز، ويبلغ عدد رسوماته حوالي الأربعة الآف, في عام 1980م راسله د. ويليم ديفريز طالباً منه حضور وتوثيق أول عملية زراعة قلب صناعي في العالم والتي أظهر ملامحها بفنه المتقن.
كان آخر وأشهر انجازاته، كتاب أطلس تشريح الإنسان والذي ترجم إلى 11 لغة ولاتكاد تخلو منه أي مكتبة طبيّة في العالم, توفي د. فرانك نتر عام 1991م وكان عمره 85سنة, تصفه صحيفة النيويورك تايمز، بالفنان الذي قدم للتعليم الطبي أكثر مماقدمه اساتذة التشريح في العالم مجتمعين ! خدمة الطب بالمعرفة والموهبة والوقت مهما كانت التكاليف ،كانت الطريق التي عبر عليها الغرب للنهضة، هذه الطريق التي شيّدها علماء وأطباء بحثوا عن الإنسان في ذواتهم وفي الوجود.
فماهو مشروعك أنت ياترى ؟