الكاتبة: ديما الشافي
المقارنة والمناظرة هما منذ الأزل الطريقتان الأسهل وربما الأصدق للمعرفة والدراية. هما معارك صغيرة وخلاّقه نديرها بأنفسنا ، تقوم على مبدأ الإقصاء المتبادل فتعري الحقائق وتجمع النقائض حتى يظهر الحق حقاً وإن أردنا خلافه . وفي سبيل إحقاق الحق سأقيم مقارنةً بسيطة بين نقيضين وموقفين يقعان على ضفتين مختلفتين من الزمن ولكن تضل تجمعهما قضية قومية واحدة في مجتمعٍ واحد.
الموقف الأول : كان لسيدتي الأولى -جدتي- التي قالت لي أثناء تغنيها الدائم بالماضي والذكريات بأنها كانت كل صباح تنتظر صوت الطرق على باب بيتهم لتتقاسم مع قريناتها من بنات الأقارب والجيران درباً نحو الكتاتيب ، وأنها لو أردات زيارة السوق أو جارة لها -عندما كبرت- فإنها تفتح الباب وتذهب إلى وجهتها مباشرة.
الموقف الثاني : لطبيبتي ومعلمتي ، والتي استنكرتُ بقاءها في القاعة بعد أن أنهت محاضراتها. ولم تغادرها كما اعتدت أن يكون من دكاترتي الذكور. سمعتها وقد رفعت جوالها بعصبية وتقول لأجنبي – كما بدا لي- : ( لماذا تأخرت؟! ألم أقل لك بأن لدي عمل مهم بعد الجامعة)!!
هذا هو الحال تماماً كما جردته المقارنة ، وطفت به نحو السطح. وهو كما لا نستطيع أن نتصوره نحن أبناء اليوم ، أقصد بنات اليوم ، بأن جدتي والتي ولدت في (عام الربيع الطيب) والذي لا أعرف موقعه تماماً على خارطة القرن الماضي ، كان لا يفصلها سوى باب خشبي عن الشارع ولا تفصلها سوى قدماها عن غايتها ورغبتها . وأما دكتورتي المُعتدة بالعلم والعمر وفي عامنا هذا. أصبحت تتعطل جميع أعمالها بعد أن أضناها التوسل إلى غريب وأجنبي و ربما جاهل قد صار كفئاً لإيصالها وللوصاية عليها وشاهداً على كل تحركاتها فقط لكونه رجل!! . أيُّ قيد هذا الذي ذقته أنا ووالدتي وأخواتي و زميلاتي ولم تعرفه جدتي في مجمل حياتها !!. وأيُّ قانون هذا الذي يعلق حاجاتنا بالذكور وإن كانوا ربما لا يفقهون شيئاً بالحياه سوى القيادة!! أضحت المواصلات الآن تقف حاجزاً صلباً أمامنا ، تئد حرياتنا وتقلص رغباتنا واحتياجاتنا حتى تقتصرها إلى الضرورات القصوى فقط. فأصبحنا ننتظر إذناً من صغير، أو وقتاً و رضا من كبير، أو عطفاً و تكرماً من سائق .
وحتى تتضح الصورة، أريد أن أُعيد الكرّة مرة أخرى مع مقارنة جديدة ولكن سأوحد الزمن هذه المرة حتى يتجسد حجم معاناتنا الحقيقي مقارنةً مع زملائنا الطلاب والذين هم في نفس عمرنا أيضاً. فالكثير منهم ذاق الرفاهية حد الترف ومنهم من فاضت نفسه من الدخول والخروج لغاية أو بدونها. جربوا تنوعاً ثرياً من الحريات المطلقة فلابد وأنه يصعب عليهم الآن الشعور بقيدنا وإن كانوا من المتعاطفين . فالطير الطائر لا يدري مالذي ينقص الطير السجين إن لم يكن قد جرب الأسر قبل ذلك. ولذلك أصبحت أتمنى في أوقات كثيرة أن نلعب لعبة تبادل الأدوار ليس حقداً ولا انتقاماً ولا أخذاً بالثأر وإنما فقط ليشعروا بعظمتنا وسعة صبرنا وتحملنا ومعرفتنا العميقة بتعريف كلمة (الإنتظار) ومن المؤكد بأنه سيتنهي الحال بهم بما هو أكثر من الشكوى والتذمر والنحيب .
نحن -بنات حواء – انقطعت بنا السبل من جميع الإتجاهات ، فلم يبيحوا لنا قيادة السيارات ولم يوفروا لنا مواصلات عامة صالحة للاستخدام نظيراً ببنات جنسنا من الجيران فأصبح حالنا كحال صاحب المزرعة الذي لايملك بئراً ولم ينزل عليه قطرُ . فلم يبق لديه خيار سوى أن يستعفف وينتظر الساقي حتى يمر عليه فيسقيه ليشرب فيعيش. أعزي نفسي حقيقةً بقول الخالق: ( ومَا يُلّقًاها إلا الذين صبروا ) فكم واحدة منّا كانت تعاني من شح في المواصلات فألغت فكرة المشاركة بمشروع أو بحث أو مؤتمر . وكم كانوا سينتفعون بنا لو أنهم جعلونا نحلق بين صروح العلم فإننا حتماً كنا سنعود لنغرد في أحدها يوماً ما.
ولهذا اعتزمت أن لا أردد ما يقول الكثيرات بعد الآن : ( أتمنى لو كنت ولداً ) وإنما سأرفع شعاراً جديداً لا أطلب فيه مستحيلاً وإنما هو دعوةٌ للتغير أقول فيه: لابد أن نعيش كما يعيشون.