مجلة نبض-BBC:
هي الطريقة الأسهل للتعلم؟ ديفيد روبسون يلتقي مجموعة من العلماء والأشخاص الذين يتمتعون بذاكرة حديدية والذين يتنافسون للوصول إلى وسائل تجعل الحقائق ترسخ في الذهن بسهولة.
بدأ عقلي يشعر بالتواضع الشديد وأنا أقف وجها لوجه أمام أهم خبراء الذاكرة في العالم. حدثني بن واتلي، على سبيل المثال، عن الحافظ الشهير ماتيو ريتشي، وهو كاهن يسوعي عاش في القرن السادس عشر الميلادي وكان أول غربي يجتاز أهم اختبارات الخدمة المدنية في الصين. وكان الامتحان صعبا للغاية ويتضمن حفظ مجلدات من الشعر التقليدي، وهي مهمة يمكن أن تستغرق العمر بأكمله.
وأضاف بن واتلي: “واحد بالمئة فقط ممن خضعوا لهذه الاختبارات تمكنوا من اجتيازها، لكن ريتشي اجتاز الامتحان بعد 10 سنوات، دون أن يكون له أي سابق معرفة باللغة الصينية.”
فكر بالتعلم كما لو كنت ستختار من بوفيه مفتوح للطعام، وليس من قائمة عشاء محددة الأنواع.
هل يمكن لعلم النفس أن يمنحنا جميعا نفس القدرة على التحكم المذهل في عقولنا؟ هذا هو ما يهدف إليه واتلي. جنباً الى جنب مع بطل الذاكرة السابق إد كوك، صمم بن واتلي تطبيقا للتعلم أطلقا عليه اسم Memrise، وهو يستخدم بعض المباديء التي يعتمد عليها ذوي الذاكرة القوية أو ما يطلق عليهم اسم الحفظة mnemonists.
والآن، انضم كوك وبن واتلي إلى فريق من الباحثين من كلية لندن الجامعية لاطلاق مسابقة تهدف للوصول إلى أفضل الطرق الممكنة لتحسين تقنيات تذكر المعلومات.
وطلب من خبراء الذاكرة من كافة أنحاء العالم أن يجروا تجارب للتوصل إلى أسهل الطرق وأكثرها فعالية لحفظ معلومات جديدة.
أنا هنا لمتابعة الجولة الأولى من التحكيم، والتي تقدم لمحة مذهلة عن الطريقة التي تعمل بها ذاكرتنا. وسواء كنت طالبا تستعد للامتحانات النهائية أم تعتزم تعلم مصطلحات وكلمات عامة بالفرنسية، فإن هذه القنيات تساعدك على استيعاب المعلومات بدون مجهود يذكر.
تقول روزاليند بوتس، من كلية لندن الجامعية، إن المنافسة بسيطة. وتضيف “إذا كان لديك ساعة لدراسة قائمة مكونة من 80 كلمة، ما الذي ستفعله لتتذكر هذه الكلمات بعد أسبوع؟”
أصبحت المهمة أكثر صعوبة عندما تم اختيار هذ الكلمات باللغة الليتوانية. واختبر العلماء هذه الاستراتيجية على المشاركين وأجروا مقارنة بينهم وبين مجموعة لا تستخدم أي تقنية تذكر.
ورغم مشاركة علماء بارزين في هذه المسابقة، فشلت بعض التقنيات في تحسين القدرة على التذكر. يقول ديفيد شانكس، من كلية لندن الجامعية “يعكس هذا مدى الصعوبة في تحويل المباديء العلمية إلى واقع تعليمي”.
كان الملل، على سبيل المثال، أحد العقبات، إذ غلب النعاس على أحد المتنافسين خلال جلسة الحفظ التي استمرت ساعة، على الرغم من تقديم الكعك للمشاركين. تقول يانا وينستاين، من جامعة ماساتشوسيتس والتي تشارك في التحكيم إن “هذا أمر طبيعي ويحدث في العادة”.
وعلى الرغم من هذه السقطات البسيطة، كان هناك بعض الفوائد، مثل مضاعفة عدد الكلمات التي تذكرها الخاضعون للاختبار. وبدلا من التركيز على أسلوب واحد، عمد البحاثون إلى استخدام توليفة من الاستراتيجيات التالية:
الاعتراف بالجهل
يعد الاختبار الذاتي من أنجح وسائل تحسين التذكر. وبالنسبة لي، ما أثار دهشتي وعاد علي بالفائدة، هو استراتيجية تدعى “جيل مفعم بالأخطاء”. بدون أي تدريب طلب من المتنافسين تخمين معنى كلمات باللغة الليتوانية. يقول شانكس “سيقعون دائما في الخطأ من الجولة الأولى”. لكن الدراسات النفسية أظهرت أن الأخطاء الأولية تجعل الكلمات ترسخ في الذهن، “فالوقوع في الخطأ من الجولة الأولى أفضل لرسوخ المعلومة من دراسة الكلمة ومحاولة تذكرها”.
أن تعترف ببساطة بجهلك، يؤدي الى دخول ذهنك في تحد ينتج عنه مضاعفة القدرة على التذكر، مقارنة بالمجموعة التي لم تستخدم هذا الأسلوب. هذه المنهجية تقوم على فكرة “الخطأ المرغوب به” في علم النفس، فإذا كانت مهمة التذكر أصعب قليلاً، فسيؤدي ذلك إلى تركيز الانتباه ووجود قاعدة أرسخ للتذكر في المستقبل.
تنشيط الذاكرة
يمكن ببساطة إضاعة الوقت في الدراسة. لذا صمم عدد من المشاركين نظاما يظهر بطريقة ذكية مدى قوة ذاكرتك بالنسبة لكل كلمة من الكلمات الـ 80، بحيث يعمل هذا النظام على تنشيط الذاكرة عندما تبدأ في النسيان. ويحتوي تطبيق Memrise على نسخة من هذه المنهجية يمكنك استعمالها الآن، كما يمكن لفريق العلماء اقتراح طرق لتطوير هذا التطبيق. وكبديل لذلك، يمكنك الاعتماد على حدسك لتوقيت عملية التعلم، تاركا فترات أطول قبل أن تتقدم للاختبار من جديد والتعلم من أخطائك.
وأجرى أحد العلماء تجربة على المشاركين بإعطائهم فترات استراحة قصيرة خلال جلسة تذكر الكلمات، مفسحا لهم المجال لمشاهدة فيديو لشلال مائي، بهدف تسهيل عملية ترسيخ المعلومات في الذاكرة. ولذا من الأفضل أن تأخذ فترات استراحة قصيرة للتأكد من أن التعب لا يتسلل إليك ويضعف قدراتك.
الدراسة على طريقة البوفيه
قد يبدو مشجعاً تقسيم المادة المراد حفظها إلى أجزاء ومواضيع وتعلم كل موضوع على حدة، وهو ما دفع العلماء لتقسيم الكلمات إلى فئات ومواضيع. لكن أحد الفريقين المتنافسين وجد أن المرور على الكلمات الـ 80 كقطعة واحدة طريقة فعالة. ويشير وايتلى إلى أن أصحاب الذاكرة القوية الذين يتذكرون كمية كبيرة من المعلومات يتبعون نفس المنهجية، من خلال المرور بسرعة عبر حزمة المعلومات كلها مرة واحدة بدلاً من تقسيمها إلى أجزاء.
قد تبدو هذه الطريقة مربكة، لكن البحث يوصي بإضفاء شكل من أشكال التنوع على جلسة الدراسة. من الأفضل أن تقضي أوقاتاً متفرقة على عدد من الموضوعات بدلا من التركيز على موضوع واحد. فكر بهذه الطريقة كما لو كنت تنتقي من بوفيه طعام، وليس كما لو كنت تتناول عشاء من طبق واحد.
رواية القصة
أي شكل من أشكال التوضيح يمكنه المساعدة على تحفيز عملية التركيز والحفظ. طلب أحد العلماء المتنافسين من المشاركين في السباق أن يؤلفوا قصة بالكلمات التي يتعلمونها. وكان كل من وايتلي وكوك حريصين على رؤية أحد الفريقين يطبق منهجية “قَصر الذاكرة” التي يحاول فيها المرء ربط الكلمات بأشياء موجودة في القاعة.
ويظهر البرنامج الذي صمموه صورة من غرفة جلوس ويعطيك كلمة “lova” بالليتوانية التي تعني خبز. وبمجرد أن تخطط طريقة تعلمك بهذا الشكل، سوف تتمكن من تذكر الكلمة بسهولة.
كان هذا هو الأسلوب الذي اتبعه الكاهن اليسوعي ماتيو ريتشي في تعلم اللغة الصينية على ذلك المستوى المتقدم. وهذا الأسلوب أيضاً هو الذي يكمن وراء قدرة كوك على تذكر 2265 رقماً ثنائياً في أقل من 30 دقيقة. ومن الممكن لبرنامج الكمبيوتر الذي يستخدمه الفريق أن يسهل العملية بجعلها تلقائية أكثر. ويقول كوك “اذا كان هذا البرنامج هو الفائز، فسيكون اكتشافاً بالغ الأهمية”.
كانت أفراد لجنة التحكيم يتمتعون بطاقة مثيرة للانتباه، لكنني لا أستطيع التوقف عن التساؤل لماذا غاب ذلك كله عن التعليم الذي نحتاجه في حياتنا اليومية. في عملي، حاولت استخدام طريقة الحُفاظ mnemonic لتعلم حوالي 1000 كلمة باللغة الدنماركية، وعلى الرغم أن ذلك ساعدني على تذكر الكلمات المفردة، لكن ذلك لم يساعدني على وضع الكلمات في سياق يمكنني من إجراء محادثة عادية في المطعم أو البار أو الطائرة.
يقر كوك بأنها مجرد الخطوة الأولى، ويضيف “أطلق على كثير من هذه التجارب اسم عملية تحفيز وتنشيط الذاكرة عندما تكون بحاجة إلى تحفيز، وبإمكانك استخدامها وقتما احتجت إليها”.
من المهم، حسب اعتقاد كوك، استخدام نفس الطريقة في أمور تتجاوز تعلم اللغات وفي جميع أنواع المعرفة من تاريخ ورياضيات. ويضيف كوك “تكرار الاختبار، وتقسيم الوقت مع أخذ استراحات قصيرة، هذه التقنيات مفيدة في كل شيء تقريباً”.
اختصر فريق علماء الذاكرة التقنيات التي استخدمت في تسهيل عملية الحفظ إلى خمس، وسيعملون على تحميلها على موقع Memrise. وسيمكنهم ذلك من تجزئة هذه التقنيات ودراستها لتحديد الفائز بجائزة قيمتها 10000 دولار. يتميز تطبيق Memrise بأنه يمنحك القدرة على إيجاد الأفكار التي تساعد في تطوير التطبيق.
لعبة التعلم
يأمل أفراد لجنة التحكيم أن يعقدوا هذه المسابقة كل عام ليتمكنوا أكثر وأكثر من تطوير فن الذاكرة. في المستقبل، يمكن أن يكون لدينا أكثر من منهجية توصلنا إلى أفضل السبل لتنشيط الذاكرة وحفظ المعلومات وتذكرها. يشير شانكس، على سبيل المثال، إلى مشروع لم يدخل المنافسة هذا العام، ولكن يمكن أن يكون مشروعا واعدا للمستقبل.
ويوضح ذلك قائلاً “يعكفون على تصميم لعبة فيديو تقوم فيها بإطلاق النار على سفن الفضاء في السماء، وبمحض الصدفة تجد على سفن الفضاء كلمات مكتوبة باللغة الليتوانية والإنجليزية. أعتقد أن تلك فكرة رائعة”.
التحدي الحقيقي لخبراء الذاكرة لا يتمثل في أن يجعلوا التعلم سريعاً وفعالا فحسب، فالجميع يعرف أن أكبر عقبة في طريق التعلم هي تشتت الذهن وعدم التركيز، سواء كان ذلك التفكير في مشاهدة التلفزيون أو الخروج والاستمتاع بالشمس في الحديقة. ولربما نحتاج إلى منافسات أخرى كثيرة قبل أن نتغلب على هذه العقبة.