الكاتبة: نوره الجعيب*
“هل جربت التشريح من قبل؟ كيف كان شعورك وبيديك أحشاء ميت؟ هل رؤيتك للدم تصيبك بإغماء؟”
هذه الأسئلة هي من أكثر ما يطرحه أقارب وأصدقاء أي ممارس صحي، خصوصا لطالب الطب في سنواته الأولى.
يظنها البعض تجربة مخيفة؟ أو ربما مقرفة ومليئة بالدماء والتقطيع وبعض الأشلاء, لكنها في الحقيقة مختلفة تماما، بالنسبة لي على الأقل. فقد كانت تجربة مثيرة للشجون، أكسبتني زُهدا, وزادتني تأملا، لذلك سأسرد بعضا من تفاصيلها، لعلها تُحيي الذكرى لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد.
في ذلك اليوم المنشود، أتجهنا لمكان المشرحة وسرنا إليه بخطوات متشوقة، وضجيج الطلبة ينعكس صداه في الممرات الضيقة، الخالية من البشر، ثم اقتربنا من الباب المؤدي للمشرحة، فتحناه على مهل، المكان مرعب، يَعمه الصمت القاتل، هدأت أصوات الطلبة وصارت كالهمس، برودة المكان القارسة تسللت إلى أجسادنا، فتقشعرت الأبدان، كلما اقتربنا من سرير المشرحة تثاقلت خطواتنا وتباطأت، ألتفتت إلي زميلتي وسألتني عن الدموع التي تنهمل من عيني، لم تبكين؟ لا ليس بكاء ولكن مادة التحنيط القوية (الفورماهايد) التي تحمي الجثث من التعفن كانت تكسي المكان لدرجة أنها تخترق الأنف و تُدمع العين.
بدأت الدكتورة بإعطائنا تعليمات عن التعامل مع حرمة الموتى، ثم أزالت الغطاء الابيض وكشفت عن الجزء العلوي للجثة وخلال ذلك أرى التشوق والخوف في أعين من حولي، لم يكسر حدة الصمت سوى صوت الدكتورة وهي تشرح وتسأل والطلبة يجيبوا، لكني لم أستطع التركيز بل سرح فكري الى عالم آخر من التأمل وانتظرت انتهاء الشرح حتى يتفرق الجموع وبعد أن فرغ المكان تقريبا اقتربت من جثة الميت تسارعت أفكاري وتساؤلاتي وانا أطيل النظر له..
ترى ماهي حالة الآن؟ أين روحة؟ ما هو مآله؟
الذي أمامي ليس ميتا, فحسب بل كان مثلي له حياة وعاش عمرا اختلطت لحظاته بالفرح, الحزن، الخوف و السعادة، كلها باتت ذكرى ماضية انطوت وتلاشت مع روحه التي قبضها الباري إليه.
فهذا الميت قد مر بأعسر يومان وبقي له يوم واحد سيأتي لا محالة. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله ” إن يوم الموت ويوم البعث مضافا اليها يوم المولد هم أشد الأوقات على الإنسان”
فيوم الولادة يكون الجنين قد غادر عالم الأرحام, بعد أن كان كل شيء مؤمن له, لا ضيق ولا كدر, فيخرج للدنيا التي سيعيش أهوالها وهمومها وينقلب من حال إلى حال لقوله تعالى ” لتركبن طبق عن طبق ”
ويوم الموت: يخرج من وسع الدنيا وفساحتها إلى ضيق القبور تحت التراب والعتمة وينتظر في عالم البرزخ إلى أن يبعثه الله, فيقول تعالى “ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون”.
لوهلة ظننت انه يسمع أفكاري ويشعر بها، فمددت يدي و أمسكت أطراف أصابعه لأستوعب انها صلبة متخشبة كالحجر.
تأملت جسده البالي، كل علامات الحياة تلاشت عضلاته متصلبة،عيناه الغائرتان أنكمش جلدة، تحللت أنسجته وتقلصت أعضاؤه الحيوية. فما هو سر الحياة ياترى؟
أنها الروح, تلك القوة المحركة الغامضة, التي تدب بها معالم الحياة وبدونها لا أثر للجسد ولا نفع فيه, فما أن تُنزع تلك بمشيئة خالقها، حتى يبطل كل ماله صلة بالحياة.
أدركت جيدا أن الروح هي أساس التفاضل وعليها يكمن الحساب والعقاب فجنة أو نار، أما الجسد بجمالة وشبابة، فتأكله دواب الأرض وتذره كالرميم، ويوم الحساب سُيبعث ذاك الجسد الخاوي “ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ” وقتها فإن كل جارحة تعود إلى ربها شاهدة، ويثوب كل عضو إلى بارئه مستسلماً لقوله تعالى “يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون”. فياله من أمر مهول, شديد وقعة على النفس، أعضائك وحواسك الخاضعة لتحكمك الآن، ستشهد غدا ضدك، والأفواه سُتغلق فلا تبرير ولا جدال يُسمع فيقول عز وجل “اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون”.
لم يقطع حبل أفكاري وتأملاتي سوى نداء الدكتورة وأمرها لي بالخروج من المشرحة لإغلاقها. نظرت إليه نظرة أخيرة بامتنان, فقد أعطاني عظات صامتة سترسخ ببالي وسأظل أرددها لنفسي وأذكر بها من حولي إلى أن يشاء الله.
اسأل الله لي ولمن يقرأ بحسن الختام والثبات عند السؤال والفوز بالجنة والنجاة من النار.
*طالبة طب بشري
Twitter : @norajoaib