طيف التوحد: أمٌ عراقية تكافح لتعميم تجربتها مع طفليها

مجلة نبض – BBC:

“لماذا أنتِ فخورة بهم؟ هم مجانين. وبالرغم من حالتهم، تتاجرين بأطفالك؟” هذا واحد من التعليقات الإلكترونية التي واجهتها شيماء الهاشمي من بغداد،وهي أم لطفلين مكفوفين ومصابين بطيف التوحد.

لشيماء ثلاثة أولاد، من بينهم آية، 17 عامًا، ومحمد، 11 عامًا، وهما مصابان بالتوحد ولا يبصران بسبب عدم اكتمال نمو قشرة الدماغ التي أثرت على العصب البصري لديهما.

الأم تعترف أنها لم تكن تعرف كيف تتعامل مع ابنتها آية في البداية، وتقول: “قبل 17 عامًا لم تكن لدينا ثقافة عن ماهية التوحد، وكانت كل معلوماتنا هي أن الطفل يجلس في زاوية ولا يُكوِّن علاقات ويكون قليل الكلام”.

الكثير من المعلومات حول التوحد وكيفية التعامل مع الطفل المصاب به، تعلمتها شيماء بنفسها من خلال دورات تثقيفية وحديثها مع أطباء في دول أخرى. ومن ثم عملت جاهدة على مشاركة هذه المعلومات والتجارب الناجحة عبر صفحتها في إنستغرام، لتعم الفائدة مع 112 ألف متابع ومتابعة.

لم تظهر علامات التوحد المبكرة على آية إلا بعد بلوغها أربع سنوات، ففي البداية كانت تمشي بصورة عادية وتكرر الكلمات التي تقال لها، لكنها بدأت تدور حول نفسها وتمشي على أطراف أصابعها، وتم تشخيصها بالتوحد، فتم إدخالها في معهد للمصابين بالتوحد وصعوبات التعلم.

سُجلت آية في أكثر من معهد وفي أغلب الأوقات كان العدد في الصف كبيرًا جدًا، حوالي 20 طالبًا، ومن مختلف درجات التوحد، فكانت ترجع إلى المنزل بعد تعلمها أمورًا تأثرُ على تطورها، وتقول والدتها “ترجعني 10 سنوات إلى الوراء.”

وتعرضت آية لحادث جعل أمها تقرر تولي زمام الأمور وأن تعلم ابنتها في البيت. تعرضت آية للتحرش في أحد المراكز المختصة،.كانت تبلغ حينها 11 عامًا وتأخر أهلها عن موعد اصطحابها من المركز في نهاية اليوم عدة دقائق، ولمّا وصلت شيماء إلى المركز ودخلته تفاجأت بأن المكان مغلق، وأخبرها شخص أن أي طفل يبقى لوقت متأخر ينتظر في غرفة الحارس، وبالفعل وجدت ابنتها هناك.

ألف فكرة كانت تدور في ذهن شيماء عن الذي حدث في هذه الدقائق القليلة التي تأخرتها، وفور الوصول إلى البيت، أسرعت الأم بإدخال ابنتها للحمام لفحص جسدها بحثًا عن أي علامات تحرش. كان الانزعاج ظاهرًا على وجه آية، حتى عندما حاولت شيماء أن تسألها عن يومها وما فعلت، قامت بإبعاد يد أمها عنها. وأضافت شيماء: “حتى يومنا هذا، عندما نحاول ضم آية، نجدها تترك مسافة بسيطة بينها وبين من يحتضنها وإذا سحبتها نحوي تبتعد”

تجربة شيماء مع ابنتها جعلتها تستبق تشخيص ابنها محمد، فحاولت أن تتعامل معه بنفس الطريقة فور ما لاحظت عليه نفس أعراض آية الأولية.

تروي شيماء الصعوبات التي واجهتها مع أبنيها، فلم تقبلهما أي مدرسة، ومدرسة التوحد لم تكن تعرف كيف تتعامل معهما لأنهما كفيفان، ومدرسة المكفوفين لم تعرف التعامل معهما لأنهما متوحدان.

وهذا ما دفع شيماء وزوجها لاستثمار وقتهما وجهدهما وأموالهما، لتطوير آية ومحمد، كانت شيماء على تواصل مع العديد من المدربين والأخصائيين في عدة بلدان مثل أمريكا والسويد وبريطانيا، وكذلك أتت بمدرب “برايل” ليعلم محمد وفعلًا تعلم في أول يوم خمسة أحرف، وهو ‘إنجاز كبير، حيث يتعلم الطفل الكفيف عادة عدد حروف أقل من ذلك.

ورغم صغر سنه، فإن لمحمد دور كبير في حياة عائلته وبالأخص أخته آية، وتقول شيماء: “محمد غيّرَ حياة آية وأصبح يعلمها ويساعدني، إذا توترت آية فهو يسكتها، وإذا انزعجت، فهو يذهب لمواساتها، لقد أصبح معلمها الصغير.” حتى عندما كان ينتهي من درس “البرايل”، يذهب إلى أخته ليعلمها ما تدرب عليه، فتتعجب المدربة من تعلم آية.

تتعرض شيماء وعائلتها للكثير من النظرات والتعليقات عندما يخرجون إلى الأماكن العامة، وتتذكر موقفًا لمحمد في ساحة لألعاب الأطفال وهو يحاول الصعود من جهة لوح التزحلق وليس من الدرج، مما جعل بعض الأمهات ينظرن إليه ويتساءلن خشية أن يقلد أطفالهن محمد ويؤذون أنفسهم.

وتقول شيماء: “أنا كأم أود أن يكون هناك قانون للمحاسبة، خاصة أن هذه المواقف التي تعرضت لها أثرت على نفسيتي. كنت أعود إلى البيت عاقدة العزم على عدم خروج أبنائي مرة أخرى”.

لذا ألبست شيماء أولادها شارات مكتوب عليها “أنا مصاب بالتوحد كن صبورًا معي”، لأنها تعبت من النظرات التي أصبحت تمنعها من الخروج.

وواجهت شيماء موقفا دفعها للبكاء، حيث رأت إحدى الأمهات في ساحة اللعب وهي تقترب من محمد لقراءة ما كٌتب على صدره لتوعية أولادها الثلاثة بحالته، وأوصتهم بأن يكونوا صبورين معه وأن يساعدوه لو كان بحاجة لأي شيء.

سمعت شيماء قصصًا كثيرة عن أهالي أطفال مصابين بالتوحد سجلوا بناءهم في مدارس خاصة وليست حكومية بسبب انخفاض نسبة التوحد لديهم، مما يسمح باختلاطهم مع باقي الطلبة.

ولكن سرعان ما تصل شكاوى لإدارة المدرسة من قبل بقية أهالي الطلاب يرفضون وجود طفل متوحد مع أولادهم، وتقول شيماء “لذلك لا أريد أن أعرض نفسي أو أطفالي لهذا الموقف، عندما تجعلين طفل التوحد يذهب للمدرسة ويشعر بالبهجة ثم يفقد هذا الشعور، هل تعرفين ماذا يفعل هذا به؟”

قلة الوعي وغلق المعاهد بسبب كورونا عام 2020 جعلا شيماء تنشئ صفحتها @autistic_iqعلى إنستغرام لتقدم فيها نصائح كأم لطفلين متوحدين، كما تنشر فيديوهات وهي تتفاعل مع آية ومحمد.

من أشهر الفيديوهات التي انتشرت لشيماء فيديو تشرح فيه كيفية إعطاء فتاة متوحدة معلوملت عن البلوغ، وقالت “لم أرد أن يتعذب بقية الأهالي مثلي وكنت أريد أن أعطي بصيصًا من الأمل لكل أم وأب”.

وتوضح شيماء أسباب بدئها الصفحة: “في بداية الأمر، كانت تصلني العديد من التعليقات السلبية مثل: لماذا تتكلم الفتاة ببطء شديد؟” أو “هذا أعمى؟” تحاول شيماء تجاهل هذه التعليقات وفي بعض المرات يقوم المتابعون لها بالرد بأنفسهم ويشرحون أن لدى آية طيف توحد أو أن كلمة أعمى غير لائقة وهناك كلمات بديلة، فتفرح شيماء بازدياد الوعي في المجتمع العراقي.

واحدة من أهم الأمور التي قد لا يُسلط عليها الضوء كثيرًا هي الضغوط الجسدية والنفسية التي يتعرض له أهالي أطفال التوحد. فعادة ما يكون التركيز على معاناة الأطفال، ويتم تناسي الأهل.

وتتعجب شيماء من السؤال عنها، وبعدها تقول: “أنا الآن بخير، من قبل كان لدي خوف غير طبيعي من القادم…حالة أطفالي…ماذا سيحدث لهم إذا أصابني مكروه؟ هذه الأفكار التي تراود الأم كل يوم ولكن الآن لا تنتابني تلك الأفكار. لدي أمل وحافز أنني استطعت إيصال اسميهما وصوتهما، آية بدأت تعتمد على نفسها بنسبة 70 بالمئة ومحمد بنسبة 90 بالمئة”.

تعترف شيماء أنها وزوجها يتعرضان لضغط كبير، قائلة: “عندما نشعر أن جميع ما فعلناه تبخر ورجعنا لنقطة الصفر”، المرحلة التي وصل إليها كل من محمد وآية لم تأتِ بسهولة، فقد احتاج محمد سنتين ليتعلم البيانو وكذلك تكرر شيماء على آية الكلمات في اليوم الواحد عدة مرات لتطور قدرتها على التواصل.

المواقف الإيجابية والتعليقات المشجعة من أهالي عملوا بنصائحها تجعلها وزوجها يواصلان ويستمران في نشر فيديوهات تثقيفية. تصل شيماء رسائل عديدة مثل أم كانت تفكر بالانتحار ولكنها تخلت عن الفكرة بعد مشاهدة فيديوهات شيماء، وأخرى تقول “أم محمد أنت أعطيتنا الأمل”.

لشيماء أيضًا مؤسسة اسمها “مميزون” وهدفها دعم المبدعين من ذوي الإعاقة، فتقوم المؤسسة بتنظيم كرنفال لبيع رسومات الأطفال وحتى إعطاء أجور للمشاركين منهم في اليوم الاحتفالي.

واشتهر محمد على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب موهبته في العزف والغناء، فموهبة الحفظ التي يتمتع بها هو وأخته مهدت الطريق للعزف، فكان في البداية يحاول أن يقلد معزوفة من ضمن المعزوفات المسجلة في لعبة البيانو الخاصة به، وهو الآن يستطيع عزف العديد من المعزوفات.

يقول محمد: “أحب أن أعزف لكاظم الساهر، إلهام المدفعي وعمر خيرت”. نزلت لمحمد أغنيته الأولى وهو الآن في صدد نشر الأغنية الشهيرة “صغيرة جنت وأنت صغيرون” للفنانة العراقية سيتا هاكوبيان بصوته، لأنها الأغنية الأولى التي عزفها وعرفه المتابعون بها.

ورغم صغر سنه، يتمتع محمد بحضور كبير، وفي كثير من الأحيان ينسى الناس أنه لا يبصر نهائيًا وهو يعزف البيانو. حتى أمه تقول: “في العديد من المرات أنسى أن محمد مكفوف. أنزل من السيارة وأنسى أنه لا يرى لأنني لا أراه يلاقي صعوبة في المشي.”

بالنسبة للتسهيلات من قبل الحكومة أو المؤسسات المعنية، تقول شيماء إن الدعم غير موجود، وفي نظرها فإن أطفال التوحد بأمس الحاجة لمناهج دراسية خاصة وأماكن رياضية وترفيهية بكوادر مؤهلة.

أما بالنسبة للمنظمات، فترى أن “المؤسسات التي تعمل هي لدعم الأرامل والأيتام والمشردين، وأن فئة ابني وبنتي منسية، و المؤسسات التي تدعي الدفاع عن ذوي الإعاقة لا تفعل شيئًا”.

توجه شيماء نصيحتها لأمهات أطفال التوحد بالأخص، قائلة: “مهما حدث تبقين أنت الأم ودورك لا يمكن لأي أحد أن يمارسه سواء كان مدربًا أو معلمةً، كوني أنت الأم، الأخت الصديقة، المدرب، المعلم…كوني أنتِ كل شيء في حياتهم.”

وعند الحديث عن كيفية التعامل مع أطفال التوحد عند إشراكهم في أمور روتينية مثل أعمال المنزل تقول: “عندما تنهرينهم أو يشعرون بانزعاجك، انتهى الأمر. من الصعب أن يتطور هذا الموضوع، ربما بعد سنة أو سنتين، إذ تتكون لديهم ردة فعل فورًا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى