أ.د. حسن: الطب يدرس بطريقة مهجنة في جامعاتنا و 64% المعارضين لتعريب الطب في استفتاء نبض
مجلة نبض(نهلا حامد): مع اختلاط الألسن واعوجاج الأحرف الذي نتعايشه حتى أصبحنا نتكلم العربية بغير حروفها ونكتب العربية بغير لغتها، وبعد استفتاء واستطلاع للرأي الذي أجرته المجلة مستهدفة المجال الطبي (مبهم اللغة)، تبرز أهمية وقفتنا الجادة لما نحن بصدده من تخلف لغوي، وأن نسعى لإثبات هويتنا العربية انحصارا وتاكيدا على نهجنا ونهج علمائنا العرب منذ قرون.
قضية مثيرة اعتبرها البعض سطحية أو لاتكاد تكون قضية، متغافلين بل ومتجاهلين أحيانا آثارها على المدى البعيد، فهنيئا لشعب تقدم وفكر وبحث (ودون علومه بغير لغته) بل واعتبره إنجازًا نال به الشرف خارج وطنه!!
هويتنا العربية تدعو لمثل هذا الاستفتاء لنلتفت إلى ركيزة أساسية هي اللغة وسياسة اعتمدها الغرب لاضمحلال النماذج الفذة والعلوم المشرفة التي تبنيناها وتكبدنا عناءها لسنوات طوال. لا نعارض ازدواج اللغه بالعلوم ولكن نتمنى أن تعتمد العربية كأساسًا لها، ومرجعا بحثيًا موثقا لمفكرينا.
ومن جهة هناك مشاهد مخجلة رآها جميعنا وكل من يعمل بهذا الحقل، انعكست حتى على المرضى وأفقدت التواصل روح المصداقية من جانب الطبيب وكان ضحيتها مريضًا جاهلاً ماهية علّته وماقد يحتاجه من علاج، وتبددت اللغة بينهما!!
علينا أن نعي وندرك أن اللغة ليست فقط وسيلة تواصل بل هي عنوان حضارة وثقافة أمة وتاريخ علماء سطروا علومهم لنثريها ونتوسع فيها ونحن للأسف في الاتجاه المعاكس للهدف، فأي مجد ننتظره؟؟
في استطلاع المجلة حول هذه القضية أظهرت النتائج أن 64,4 % معارضون لفكرة تعريب المناهج الطبية وفي المقابل 35,6 % كانو من المؤيدين فقط، وحول الموضوع كانت لنا سلسلة لقاءات مع عدد من المهتمين مبتدئين بلقائنا مع الكاتب والطبيب الاكاديمي الأستاذ الدكتور حسن الزهراني -استشاري جراحة الأوعية الدموية بجامعة الملك عبدالعزيز- وقد دار بيننا هذا الحوار:
من الملاحظ مؤخراً تراجع استخدام اللغة العربية ٬ وإدماجها بمفردات أجنبية . برأيك مالأسباب وراء ذلك ؟
– ملاحظتكم صحيحة، فهناك مؤشرات واضحة على انحسار العربية واجتياح الانجليزية أو- قل سونامي تغريب العلوم- مما يشكل خطرا على هوية بلادنا تحديدا، فبلادنا هي موئل الإسلام وعرين العروبة ، أهلها عرب أقحاح ، وقادتها وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين حفظه الله عروبيون حتى النخاع ، لا يترددون في التذكير بالهوية الإسلامية العربية لبلادنا ، ولا يألون جهدا في دعم لغة القرآن والأجداد ، فيقدمون الجوائز للباحثين فيها من مؤسسات وأفراد ، ويسنون الأنظمة بوجوب استخدام العربية في المخاطبات الرسمية ودور التعليم ، بل وحتى في تسمية المواليد والمحال التجارية ، ومع ذلك فإن المشكلة تكمن في تطبيق متراخ وضعيف!.
– إن ما نلحظه اليوم من مظاهر ضعف مستوى تعليم العربية في المدارس والزهد الشديد في تعلمها من قبل الناشئة مؤشر خطير له أبعاده ، فهناك توجه نخبوي للتعلم باللغات الأجنبية مما يفوت على بقية أفراد المجتمع حقهم المشروع في تكافؤ الفرص في التعلم والتعيين في الوظائف المرموقة.
– نحن لا نعارض تعلم اللغات الأخرى بل نشجع ذلك شريطة ان لا يكون ذلك على حساب العربية، بل انني ارى ضرورة لتمكن طالب الطب من اتقان لغة اجنبية واحدة اضافة للعربية.
فكرة تعريب العلوم كانت مقترحة من قبل ، فلم أصبحت الفكرة أكثر رواجاً مؤخراً ، ومتبنيين الفكرة أكثر إصراراً؟
لنبدأ بالبعد الديني الذي يؤكد على مشروعية المحافظة على العربية والمناداة بالتعريب ، فالعربية هي لغة القرآن ، الكتاب السماوي الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو دستور المسلمين المحفوظ الذي رضيه ربهم لهم وأتم به النعمة عليهم ، وكفى بذلك فخراً، وهي اللغة التي أختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)) .
وقبل أن أكمل ولعلمي بأن تهم الظلامية والرجعية والانغلاق في زمن العولمة والانفتاح جاهزة للانطلاق ، فلعلي أؤكد على قناعتي التام بأهمية تعلم أكبر قدر ممكن من لغات العالم الحية وبالذات لغات الدول المنتجة ، سواء أكانت غربية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية ، أو شرقية كالصينية واليابانية وغيرها ، و لا أرى أن نقتصر على الانجليزية فقط على أولويتها وأهميتها ، إذا فلا تعارض بين التعليم بالعربية وبين تعلم لغات أخرى تعين على الإطلاع والانفتاح على حضارات العالم القديم والحديث ، وهو ما فعله العلماء المسلمون في صدر الدولة الإسلامية حيث عمدوا إلى ترجمة كتب الفلسفة والطب ، واحتفوا بكتب من سبقهم بصرف النظر عن معتقده ، فلم يقوموا بحرقها أو رميها كما فعل غيرهم ، إلا أن الأمر توقف عند هذا الحد ، فلم يتلثغوا بلغات الرومان والفرس و اليونان في مجالسهم ولم يكن ذلك على حساب العربية ، أي هو عكس ما نفعله نحن اليوم! .
من خبرتكم في مجال التعليم الطبي ، ماهو انطباعكم عن العملية التعليمية الحالية ؟
في كلية الطب –التي ُأدرِس فيها- والتي يدرُس فيها صفوة خريجي الثانوية العامة ، يظن الطالب في السنوات الأولى بأنه يدرس المناهج بالانجليزية وهو بعيد كل البعد عن ذلك ، فأساتذته ُيدرٍسونه في الغالب بلغة هجينة تستخدم فيها الانجليزية في المصطلحات فقط ، وهو ما يعادل 10% من مجموع الكلمات التي يقرأها ، ويتم تدريسه بهذه الطريقة المهجنة لأنه لا يستطيع أن يفهم باللغة الإنجليزية لو تحدث أستاذه بنسبة 100% بالانجليزية ، أو أن مستوى الأستاذ ضعيف أصلا فيها ، فينجح الطالب في الامتحانات بحسن الظن فيقوم الأستاذ بتقديم حسن الظن بالطالب فيقول لعله يقصد كذا وكذا ، ولا تعجب إن رأيت الطلبة يستخدمون الملازم والملخصات بدلا عن المراجع الإنجليزية ، وأن تلك الملخصات قد تم ترجمة مصطلحاتها إلى العربية من قبل الطالب ، فليس هذا هو المهم إنما المهم أن “نفشخر” بأن خريجنا يدرس الطب بالانجليزية ، ثم يصل الطالب إلى السنوات النهائية فأضطر –ومعظم زملائي- إلى إكمال المسرحية التي بدأت فصولها من الأول متوسط ، ونستمر في الحديث إليهم بالانجليزية حتى يدركهم الشرود الذهني وعدم القدرة على المتابعة فنتحول مرغمين إلى العربية لإفهامهم المقصود ، وتنتهي الحفلة بالتخرج والتقديم للدراسات العليا ، وهنا تحدث النقلة النوعية في حياة الطالب حيث يكون قد بلغ مرحلة النضج والاعتماد على النفس ، فينكب على تحسين لغته نطقا وتحدثا وكتابة ، فلا يمر عام واحد إلا وقد أجاد اللغة التي يحتاجها في مستقبل حياته ، وقد لا تكون اللغة الانجليزية بل الألمانية أو الفرنسية أو السويدية أو أي لغة كانت ، فالحاجة أم الاختراع ، والتحدي يولد القوة ، والنضج العقلي والخبرة في الحياة تعين في هذه المرحلة ، وكلما كان متقنا للغته الأم كلما سهل عليه تعلم غيرها.
مافكرتكم عن تجارب التدريس باللغات الأم حول العالم ؟
هناك 350 مليون أو أكثر من العرب وهناك أكثر من 200 كلية للطب لا ُيدرس الطب فيها بالعربية إلا في 5 كليات ، أما البقية فَتدرس بلغات مهجنة من الانجليزية والفرنسية والايطالية ، بينما ُيدرس الطب باللغات الوطنية في الكثير من دول العالم ومنها المانيا وفرنسا وايطاليا واسبانيا وروسيا والسويد والدانمارك وأوكرانيا ، بل وحتى ألبانيا الفقيرة وفنلندا ذات اللغة الأصعب في أوروبا وغيرها من الدول الأوروبية ، أضف إلى ذلك إيران و تركيا والصين وكوريا واليابان وفيتنام واندونيسيا بل إن تنزانيا تدرس الطب بالسواحلية ، وغير هذه الدول كثير جدا ، بل إن الطب يدرس في إسرائيل بالعبرية وهي لغة لا يتحدث بها إلا أقل من 10 مليون نسمة ، ومعظم أطباء إسرائيل قد درسوا بلغات غير العبرية ، فلماذا ُكتِبَ على العرب فقط الشعور بالدونية والنقص تجاه لغتهم العريقة؟! .
درس العرب والمسلمون الطب بالعربية قرون بعد أخرى ، فدرسوا الطب في كلية طب القاضي العيني (وهو ما عرف لاحقا بقصر العيني جامعة القاهرة حاليا) باللغة العربية أكثر من ستين عاما ، حتى تحولوا وبضغط من المستعمر إلى الانجليزية في عام 1887م ، كما درسوا الطب بالعربية في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية في بيروت) لسنين طوال ، واستمرت جامعة دمشق في تدريس الطب بالعربية لمدة قاربت الخمسة وثمانين عام وحتى تاريخه ، خرجت كلية طب دمشق أجيال من الأطباء المتميزين الذين شهد لهم القاصي والداني ، وأثبتوا جدارتهم في اجتياز امتحانات المعادلة باللغات الأجنبية ، ولعلي اذكر في هذا الصدد على سبيل المثال وليس الحصر ممن أعرف الدكتور خالص جلبي الذي درس فيما بعد بالألمانية فأجادها وبرع في النقل من علومها في الطب وغيره ، والدكتور حسان شمسي باشا الذي أكمل بالانجليزية وأستمر يترجم ويؤلف بالعربية عشرات الكتب ، وغيرهم كثير، مما يدل على عدم وجود علاقة سلبية بين التعلم بالعربية وضعف المستوى في إكمال الدراسة العليا أو متابعة الجديد في عالم الطب ، بل إن العكس هو الصحيح!. و أن تعليم الطب بالعربية لا يعني عدم تشجيع تعلم اللغات الأخرى ، بل إن في تعلم كافة اللغات وليست الانجليزية فقط خير متعد ، فمتعلمها سوف يفيد أمته في الترجمة والنقل من علوم الآخرين ، ويسهل عليه متابعة الجديد في تخصصه ، ويوسع من أفقه .
ماهي مقترحاتكم لتطبيق الفكره على أرض الواقع ؟
– التعريب هوية وقضية سيادية وليست فقط علمية، التعريب مشروع وطني طويل المدى وليس مشروع أفراد وان كان يحتاج لأبطال في البداية
– تعريب الطب لم يكن ممكنا في الماضي لقلة وجود الكفاءات التي تمتلك ناصية لغة أجنبية بالاضافة للعربية أما الآن فلا عذر
– مشروع تعريب الطب لا يعني عدم تعلم اللغات الأخرى بل بالعكس سيحول طريقة التعليم من الحفظ والتلقين الى الفهم والاستيعاب
– أقترح أن تبدأ التجربة في كلية واحدة يفضل ان تكون خاصة او حكومية جديدة مدعومة ويترك لمن أراد الالتحاق بها ثم تقيم التجربة + 10 سنوات
– يتم في فترة الـ 10 سنوات الطلب من كل عائد من البعثة ترجمة كتاب مرجعي واحد في تخصصه وتسليمه الى المركز الوطني للتعريب
– يتم الزام الاطباء الممارسين بترجمة مقالة علمية من مجلة محكمة كشرط للحصول على العلاوة السنوية ويفضل ان يكون موضوع المقالة عام
– يتم حث الطلبة على ترجمة كتاب او 5 مقالات علمية كمشروع تخرج ويمكن تضمين ذلك كمادة اختيارية في مناهج الكليات تسمى تثقيف صحي
– يتم عقد ملتقى سنوي علمي تقدم فيه الابحاث المنشورة باللغات بالعربية ويصدر عنه كتاب محكم ويوضع على النت
– يتم انشاء مجلة علمية محكمة بالعربية وتلزم بنشر ملخصين بالانجليزية والفرنسية لابحاثهما ويعتد بها في الترقية العلمية وحدة واحدة
– اقترح ان يبدأ التعريب في مقرارات محددة مثل أخلاقيات المهنة، طب المجتمع والصحة العامة، مهارات الاتصال بحيث تبقى المصطلحات الانجليزية.
أخيرا.. مشروع التعريب مشروع أمة وليس أفراد، يحتاج الى قرار حاسم وميزانية سخية ومؤسسات ومراكز تدعمه، وقبل هذا وذاك الى تدرج في التطبيق، كما ينبغي ان يكون ضمن حزمة تطوير للتعليم العالي تشمل دعم الترجمة والبحث العلمي.
لا تفي كلمات الشكر المعتادة في مدى التعبير عن الامتنان لمجلة نبض على ملاحقتها لهذه القضية الحضارية بامتياز.. فتعريب العلوم (ومنها الطب) هو الحجر الأول في بناء خروجنا من التبعية المعرفية للدول الأخرى وهو القادر على بناء هوية ثقافية متميزة لنابين شعوب الأرض..
ياليت المناهج تعرب فعلاً ونفتخر بلغتنا لابأس أن تكون هنالك مادة أنجليزية من أجل التعامل مع بعض الاطباء أو المرضى الذين لايجيدون اللغة العربية ولاكون المضمون والمناهج البقية تدرس باللغة العربية.